صلح الحسن عليه السلام

flower 12

    

   

لقد خاض أمير المؤمنين عليه السلام في مدّة خلافته القصيرة ثلاث حروب دفاعيّة، ولم يتركه الأعداء أن يستقرّ قليلا ً للإصلاح الاجتماعي والسياسي والفكري الذي كان يضرب باطنابه في مجتمع المسلمين، إلى أن ذهب إلى ربّه مظلوماً شهيداً.

ولم يترك الأعداء  الإمام الحسن عليه السلام أيضاً أن يجرّ أنفاسه ويعيد ترتيب الوضع الاجتماعي الذي مزّقته الحروب  الثلاثة في خلافة والده. فما أن بُويع الحسن عليه السلام بالخلافة حتى استنفر معاوية أهل الشام وسار بهم نحو العراق، ولم يكن أمام الحسن عليه السلام في مثل هذه الحالة سوى الدفاع.

فبدأ باستنفار أهل الكوفة واستنهاضهم لجهاد عدوّهم فلم يستجب له إلاّ عدد قليل من أهل الكوفة متفرقة الأهواء مختلفة الأهداف، بقول الشيخ المفيد: (وسار معاوية نحو العراق ليغلب عليه، فلمّا بلغ جسر منبج [1] تحرّك الحسن عليه السلام وبعث حجر بن عديّ فأمر العمّال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه، ثمّ خفّ معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما السلام، وبعضهم مُحَكِّمة [2] يؤثرون قتال معاوية بلاّ حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكّاك، وبعضهم أصحاب عصبيّة اتّبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين) [3] .

وكانت استراتيجية الخوارج هي الانخراط في صفوف جيش الإمام الحسن عليه السلام ومقاتلة جيش معاوية، فإن تمّت الغلبة لأهل الكوفة على أهل الشام انقلبوا على الإمام الحسن عليه السلام وخلعوا طاعته وأطاحوا بحكومته بعد أن تكون الحرب قد انهكت قوى جيشه؛ لأنّهم غير قادرين على مواجهة الإمام الحسن (ع) ومعاوية كلٍّ على حِدة، وكانت أعدادهم كبيرة في الكوفة، فقد اجتمع منهم إثنا عشر ألفاً في النهروان، انسحب منهم ثمانية آلاف قبل بدء القتال بعد أن رأوا

الرجحان في كفّة جيش أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أخذوا يتحينون الفرص لأخذ ثأر أخوانهم في النهروان.

وقد كان الإمام الحسن عليه السلام مطلّعاً على نواياهم، عارفاً بأهدافهم، قد اتّخذ الحيطة والحذر في التعامل معهم، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك في بعض خطبه: "أمّا والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنّا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا. ثم أصبحتم تصدّون قتيلين: قتيلاً بصفّين تبكون عليهم وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر) [4] .

  وأمّا الفئة الطامعة فقد استمالهم معاوية بالأموال الطائلة والاغراءات فانحازت إليه، فالتحق قسم منهم بجيش الشام، وبقي قسم آخر في جيش الإمام الحسن عليه السلام يُخذِّل الآخرين ويثير الشكوك وينشر الدعايات التي تستهدف تضعيف معنويات المقاتلين أو محاولة القبض على الإمام الحسن عليه السلام وأهل بيته وتسليمهم إلى معاوية أو محاولة اغتياله.

وقد تعرّض الإمام الحسن عليه السلام  إلى محاولة اغتيال فاشلة، وكانوا يتربصون به لقتله، فقد روى الصدوق في "علل الشرائع" أنّ معاوية دسّ إلى عمر بن حريث والأشعث وإلى حجر بن الحارث وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه، أنّك إن قتلت الحسن بن عليّ فلك مائتا ألف درهم وجند من أجناد الشام وبنت من بناتي. فبلغ الحسن عليه السلام فاستلأم ولبس درعاً وكفّرها، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك. فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه؛ لما عليه من اللأمة، فلمّا صار في مظلم ساباط ضربه أحدهم بخنجر مسموم، فعمل فيه الخنجر... فقال الحسن عليه السلام: "ويلكم والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظنّ أنّي إن وصفت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي(ص)  وأنّي أقدر ان أعبد الله عزّوجلّ وحدي، ولكنّي كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم، يستسقونهم ويستطعمونهم، لما جعله الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون، فبعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون" [5].

ولا يشك أحد في أنّ الإمام الحسن عليه السلام أفضل من معاوية, وأنّه أولى بالخلافة منه وأجدر بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأنّ معاوية رجل يحبّ السلطة ويعشق كرسيّ الحكم ولا يبالي ما فعل في سبيل البقاء في السلطة، ولا يهمه مصلحة المسلمين، وانّه من مسلمي الفتح الذين

أسلموا رهبة من سطوة السيف، وهو ابن رأس الكفر أبي سفيان الذي جيّش الجيوش على رسول الله (ص) المرّة تلو الأخرى إلى أن أُرغم أنفه بالدخول في الإسلام كارهاً.

كما لا يشك أحد في شرعيّة الموقف الذي اتّخذه الإمام الحسن عليه السلام في الصلح مع معاوية، سواء عند الشيعة الذين يروونه إماماً مفترض الطاعة، ومعصوماً مسدّداً من الله تعالى لا يزل ولا يخطأ، أو عند السنّة الذين رووا فيه عن النبيّ (ص)، "إنّ ابني هذا سيّد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين" [6].

ولكن وقع الكلام عند البعض في أنّ هذا الموقف قد أدّى إلى إذلال المؤمنين وعلوّ شوكة المنافقين، أو أنّ الأولى والأجدر كان مقاومة جيش معاوية بما بقي معه من الصابرين إلى أن يلقوا حتفهم. فعن سعيد بن عقيصا قال: لمّا صالح الحسن عليه السلام معاوية دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال الحسن عليه السلام: "ويحكم  ماتدرون ما عملت، والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أوغربت، ألا تعلمون أنّي إمامكم ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيّدي شباب أهل الجنة بنصّ من رسول الله (ص) عليَّ؟" قالوا: بلى. قال: "أما علمتم أنّ الخضر لمّا خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران عليه السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً؟! أما علمتم أنّه ما منّا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلّي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام؟!" [7] .

وعن عبد الرحمن بن عبيد قال: لما بايع الحسن عليه السلام معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية، فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلهم يأخذ العطاء... إلى آخر كلامه الطويل.

فقال الحسن عليه السلام: أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا فلو كنتُ بالحزم في أمر الدنيا أعمل، لسلطانها أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً ولا أشدّ شكيمة ولا أمضى عزيمة، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلاّ حقن الدماء فارضوا بقضاء الله وسلّموا لأمره، والزموا بيوتكم وأمسكوا – أوقال: كفـّوا أيديكم – حتى يستريح برٌّ أو يستراح من فاجر" [8].

فقد سلّط الإمام الحسن عليه السلام في الخبرين السابقين الأضواء على عدة   أ ُمور:

الأول: أنّ سرّ الصلح مع معاوية قد خفي على الناس، ولم يشأ الإمام أن يوضحه.

الثاني: أن الصلح هو أمر من الله تعالى ويجب على الشيعة امتثاله وطاعته.

ثالثاً: أنّ خطّة الإمام الحسن عليه السلام في الصلح كانت تكمن في جرّ الأنفاس وكسب الوقت للاستراحة بعد أن أنهك أهل الكوفة القتال طيلة السنوات الخمس الماضية، والخمس والعشرين سنة التي سبقتها والتي قضوها بالفتوحات في عهد الثلاثة.

رابعاً: أنّ الصلح لا يعني ترك الأمر نهائياً بل هو انتظار واستعداد إلى حين موت معاوية، ثم يرجع الأمر إلى ما كان عليه من المقاومة والمنازعة، فإنّ الإمام الحسن عليه السلام كان يعلم بأنّ في نـّية معاوية استخلاف ابنه يزيد المتجاهر بالفسق وشرب الخمور، وحينئذ سيثير هذا الأمر حفيظة الكثير من المسلمين الذين لا يشكّون في عدم لياقة يزيد للخلافة إلى التمرّد عليه وعصيانه وبالتالي توفّر أجواء الثورة للانقضاض على الحكم السفياني وتقويضه.

ولعلّ سر الصلح الذي لم يشأ الإمام الحسن عليه السلام الإفصاح عنه يكمن في ملحمة عاشوراء، فلو لا هذا الصلح لم يكن هناك عاشوراء وكربلاء الذي يعني انقراض الإسلام الواقعي وهو التشيّع لآل محمد صلوات الله عليهم، وإذا انقرض التشيّع فلا معنى حينئذ لظهور قائم آل محمد عليه السلام ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً، فإنّه لا ظهور لهذا المصلح الإلهي لهذا العالم الذي مُلِيَْ فساداً وظلماً فلو لا الحسين وعاشوراء فلا مهدي ولا ظهور يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

ومن هنا يمكن أن ندرك قول الامام الباقر عليه السلام: " والله الذي صنعه الحسن بن علي عليه السلام كان خيراً لهذه الأ ُمة ممّا طلعت عليه الشمس، ووالله لقد نزلت هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } إنّما هي طاعة الإمام، ولكنّهم طلبوا القتال { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } مع الحسين عليه السلام {قالوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ }، { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } أرادوا تأخير ذلك إلى القائم عليه السلام" [9] .

    

 المصدر: سایت السبطین

 

[1] منيج: بلد بالشام. 

[2] المُحَكِّمَه: الخوارج (انظر الملل والنحل 1: 106). 

[3] الإرشاد 2: 10. 

[4] بحار الأنوار 44: 21 / 5. 

[5] بحار الأنوار 44: 23 / 1. 

[6] مسند احمد بن حنبل 5: 37، 51، مجمع الزوائد 9: 175، كنز العمال 13: 667. 

[7] بحار الأنوار 44: 19 / 3. 

[8] بحار الأنوار 44: 29 – 30. 

[9] بحار الأنوار 44: 25 / 9.

logo test

اتصل بنا