عبدالله المأمون: نزعاته وسياسته

flower 12

    

عبدالله المأمون هو أبو العباس بن هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس ، ولد بالياسرية في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول سنة ( 170 هـ ) وبويع له بمرو فتوجه الى بغداد وقدمها وعمره اذ ذاك تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام .

واُمّه ام ولد تسمّى مراجِل .

من أبرز نزعات المأمون وصفاته:1 ـ الدهاء : لم يعرف العصر العبّاسي من هو أذكى من المأمون ، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة فقد كان سياسياً من الطراز الأوّل ، حتّى استطاع بحدّة ذكائه ، وقدراته السياسية أن يتغلّب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به ، وكادت تطوي حياته ، وتقضي على سلطانه ، فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل الاُسرة العبّاسيّة ، والسلطات العسكرية ، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية مضادّة له ، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية حتى سقط بعضها بأيدي الثوار ، وكان شعار تلك الثورة الدعوة إلى الرضى من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) فحمل الإمام الرضا(عليه السلام) إلى خراسان ، وكان(عليه السلام) زعيم الاُسرة العلويّة وعميدها ، فأرغمه على قبول ولاية العهد ، وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره ، كما ضرب السكّة باسمه ، فأوهم بذلك على الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنّه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمام(عليه السلام) على ولاية العهد، وقضى بذلك على الثورة ، وطوى معالمها ، وهذا التخطيط كان من أروع المخطّطات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ .2 ـ القسوة : وانعدام الرحمة والرأفة من آفاق نفسه هي صفة اُخرى له ، والذي يدعم ذلك فهو قتله لأخيه حينما استولت عليه قوّاته العسكرية ، ولو كان يملك شيئاً من الرحمة لما قتل أخاه .

كما أنّه قابل العلويّين بعد قتله للإمام الرضا (عليه السلام) بمنتهى الشدّة والقسوة ، فعهد إلى جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجِدوا .3 ـ الغدر : فقد بايع للإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد ، وبعد ما تحققت مآربه السياسية دسّ إليه السمّ فقتله ليتخلّص منه .4 ـ ميله إلى اللهو : أمّا الميل إلى اللهو فقد أقبل عليه بنهم وفيما يلي بعض ما أثر عنه :

لعبه بالشطرنج :

ولم يكن شيء من الملاهي أحبّ إلى المأمون من الشطرنج[2][61] فقد هام في هذه اللعبة وقد وصفها بهذه الأبيات :

أرض مربّعة حمراء من أدم***ما بين الفين موصوفين بالكرم

تذاكرا الحرب فاحتلالها شبهاً***من غير أن يسعيا فيها بسفك دم

هذا يغير على هذا وذاك على***هذا يغير وعين الحرب لم تنم

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة***في عسكرين بلا طبل ولا علم[3][62]

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج ، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه ، وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج ، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته ، وتوجد حالياً في بعض متاحف فرنسا .

ولعبه بالموسيقى :

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى ، وكان له هوى شديد في ذلك وكان معجباً كأشدّ ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي ، الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي ، وقد قال فيه : كان لا يغنّي أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان[4][63].

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود ، ولم يمرّ اسم الله ولا ذكره في قصوره ولياليه .5 ـ تظاهره بالتشيّع :

لقد تظاهر المأمون بالتشيّع ، حتى اعتقد الكثيرون أنّه من الشيعة ; لأنّه قام بما يلي :

أ ـ ردّ فدك للعلويّين : بعد أن صادرتها الحكومات السابقة عليه وكان قصدها إشاعة الفقر بين العلويّين ، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم حتى يشغلهم الفقر والبؤس عن مناهضة اُولئك الحكّام ، وقد أنعش المأمون العلويّين ، ورفع عنهم تلك الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم ، واعتبر البعض هذا الإجراء دليلاً على تشيّعه .

ب ـ تفضيل الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) على الصحابة : وقام المأمون بإجراء خطير فقد أعلن رسمياً فضل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) على عموم الصحابة كما أعلن الحطّ من معاوية بن أبي سفيان .

وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات التي تُلفت النظر إلى تشيّعه ، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمام (عليه السلام)، والحطّ من شأنه ، وتقديم سائر الصحابة عليه .

ج ـ ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) : حيث قيل إنّ معناها أنه قد أخرج بذلك الخلافة من العبّاسيّين إلى العلويّين .

ويلاحظ على كل هذه الظواهر أنه إنّما صنع الاُمور المتقدّمة تدعيماً لسياسته وأغراضه ، ويدلّ على ذلك ما يلي :

أوّلاً : إنّه كان مختلفاً كأشدّ ما يكون الاختلاف مع الأسرة العبّاسية الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين لأنّ اُمّه زبيدة كانت من أندى الناس كفّاً ، ومن صميم العبّاسيّين ، أمّا اُمّ المأمون فهي مراجل ، وكانت من إماء القصر العبّاسي ، وكان العبّاسيّيون ينظرون إليه نظرة احتقار باعتبار اُمّه ، فأراد المأمون بما أظهره من التشيّع ارغام اُسرته الذين كانوا من ألدّ الأعداء لآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشيعتهم .

ثانياً : إنّه أراد كشف الشيعة ، ومعرفة السلطة بهم بعدما كانوا في الخفاء، ولم تستطع الحكومات العبّاسية معرفتهم والوقوف على أسمائهم وخلاياهم ، فأراد المأمون بما صدر منه من إحسان لهم أن يكشفهم ، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه .

ثالثاً : إنّه أراد القضاء على الحركة الثورية التي فجّرتها الشيعة بقيادة الزعيم الكبير أبي السرايا ، فرأى المأمون أن خير وسيلة للقضاء عليها وشلّ فعّاليّاتها هو الإحسان إلى الشيعة[5][64].

وقفة عند سلوك المأمون ونزعاته :
كانت حياة المأمون ـ قبل توليه الخلافة ـ حياة جد ونشاط وتقشف ، على العكس من أخيه الأمين، الذي كان يميل الى اللعب والبطالة اكثر منه الى الجد والحزم .

ولعل سرّ ذلك يعود الى أن المأمون لم يكن كأخيه ، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئناً إلى مستقبله، والى رضا العبّاسيين به ، بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفةً وحاكماً ، ولهذا فقد وجد انه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد وبدأ يخطط لمستقبله منذ أن ادرك واقعه ، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الأمين عليه .

ويُلاحظ انه كان يستفيد من أخطاء أخيه الأمين وان الفضل عندما رأى اشتغال الأمين باللهو واللعب ، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين ، وحسن السيرة ، فأظهر المأمون ذلك ... وكان كلما اعتمد الأمين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة.

ومن هنا يتبيّن السرّ فيما يبدو من رسالته للعبّاسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظاً تقيّاً ، وأضفى عليها هالة من الورع والزهد في الدنيا والالتزام بأحكام الشريعة، ليروه ويراه الناس نوعية اخرى تفضل على نوعية أخيه الأمين .

وقد برع المأمون في العلوم والفنون حتى فاق أقرانه ، بل فاق جميع خلفاء بني العباس ، فإنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون[6][65].

وهو أعلم الخلفاء بالفقه والكلام[7][66].

وكل مَن تعرّض من المؤرخين وغيرهم ، لشرح حال المأمون ، قد شهد له بالتقدم ، وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم[8][67].

وما يهمنا هنا ، هو مجرد الاشارة الى حال المأمون ، وما كان عليه من الدهاء والسياسة وحسن التدبير .

وبالرغم من جدارة المأمون فيما اذا قورن الى أخيه الأمين باعتراف أبيه الرشيد بذلك، لكن الرشيد قد اعتذر عن إسناده الأمر إلى الأمين بأن العبّاسيين لا يرضون بالمأمون خليفة[9][68].

ويرى بعض المؤرخين أنّ السرّ في عدم رضا العبّاسيين بالمأمون يرجع الى ان الأمين كان عبّاسيّاً ، بكل ما لهذه الكلمة من معنى فأبوه : هارون ، وأمه زبيدة حفيدة المنصور... وكان في كنف الفضل بن يحيى البرمكي أخي الرشيد من الرضاعة واعظم رجل نفوذاً في بلاط الرشيد ، وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع ، العربي الذي لم يكن ثمّة من شك في ولائه للعبّاسيين .

أمّا المأمون فقد كان في كنف جعفر بن يحيى ، الذي كان اقل نفوذاً من أخيه الفضل . وكان مؤدبه والذي يشرف على مصالحه ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون اليه . . لأنه كان متهماً بالميل الى العلويين . . . أما اُم المأمون فخراسانية غير عربية...[10][69].

التحدّيات التي واجهت حكم المأمون وموقفه منها
لقد جابه حكم المأمون تحديات خطيرة كانت تهدد كيانه وكادت تعصف به، وكان بقاؤه في السلطة يحتاج الى الكثير من الدهاء.

وأهمّ ما كان يواجه المأمون ما يلي:

1 ـ تحرك الشيعة ضده وكان تحركاً عنيفاً، وكانت ثورة أبي السرايا التي عمّت الكثير من الحواضر الاسلامية آنذاك نموذجاً له .

2 ـ تكتل العائلة العباسية ضد المأمون ووقوفها الى جانب الأمين أولاً ، ثم عزلها له وتعيين عمه ابراهيم بن المهدي بعد ذلك .

3 ـ تحركات الخوارج والفئات المناوئة الاُخرى .

4 ـ وجود المخاطر الخارجية من جانب الدول المتربصة بالدولة الاسلامية ، خصوصاً الدولة البيزنطية .

وأمام هذه التحديات قام المأمون بما يلي:

أولاً ـ تصفيته لتحرك أخيه الأمين والقوى المتحركة القوية ضده .

ثانياً ـ القيام بلعبة تولية الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد بالإكراه ليصوّر للاُمة انه مع القيادة الشرعية وانه نقل الحكم اليها وهذا من شأنه أن يقلل من الروح الثورية للاُمة باتجاه اقامة الحكم بقيادة أهل البيت (عليهم السلام) .

ثالثاً ـ محاربة وتصفية ثورات العلويين .

رابعاً ـ التصفية الجسدية للإمام الرضا (عليه السلام) بعد انتهائه من تصفية الثورات الخطيرة .

خامساً ـ التوجّه الى بغداد للقضاء على معارضة البيت العباسي .

سادساً ـ تصفية مراكز القوى في الدولة باتجاه تعزيز قوته ووضعه .

سابعاً ـ اشاعة فتنة خلق القرآن لإشغال الناس بها عمّا يهمّهم .

ثامناً ـ تصفية قوى المعارضة من قبيل الخوارج .

تاسعاً ـ التوجه لمحاربة الدولة البيزنطية ودفع خطرها .

العلاقة بين الإمام الرضا (عليه السلام) والمأمون
وصلت المسيرة الإسلامية اثناء إمامة الرضا(عليه السلام) الى مرحلة متقدمة نتيجة الجهود العظيمة التي بذلها الأئمة السابقون على الإمام الرضا(عليه السلام) مما جعل السلطة العباسية مضطرة للدخول فيما دخلت فيه من تولية الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد والإيحاء بتحويل الخلافة من العباسيين لأهل البيت (عليهم السلام) . ولايضاح هذا الأمر نذكر الاُمور التالية :

أ ـ حالة الاُمة بلحاظ القيادة الشرعية :
يبدو ان الاُمة كانت تؤيّد قيادة أهل البيت (عليهم السلام) وتعتقد بها ولكن ضمن ثلاثة مستويات ، هي :

1 ـ عموم الاُمة التي اصبحت مؤمنة بقيادة أهل البيت (عليهم السلام) ، دون ارتباطها بهم برباط عميق واع .

2 ـ المعارضون للدولة الذين يعتمدون الكفاح المسلّح لاسقاطها واقامة الحكم الإسلامي ، وثورة أبي السرايا نموذج لذلك .

3 ـ المؤمنون الواعون بالقيادة الشرعية وهم أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) وانصاره.

ب ـ تحرك المأمون على واقع المستويات الثلاثة :
انتهج المأمون سياسة المراحل في احتواء المستويات الثلاثة واجهاضها بحنكة ودهاء وبالشكل التالي :

1 ـ التصدي لمواجهة الثوّار الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) وتصفيتهم عسكرياً، ففي أيامه خرج أبو السرايا وقويت شوكته ودعا الى بعض أهل البيت (عليهم السلام) ، فقاتله الحسن بن سهل ، فكانت الغلبة لجيش المأمون وقتل أبو السرايا .

2 ـ احتواء التوجه الشعبي لأهل البيت (عليهم السلام) .

لقد ابتكر المأمون وسيلة سياسية بارعة لاحتواء هذا التوجه وذلك ببيعة الإمام الرضا (عليه السلام) ولياً للعهد والتظاهر بموالاة أهل البيت (عليهم السلام) لتشويه هذا التوجه وامتصاصه .

وكان المأمون قد أنفذ إلى جماعة من آل أبي طالب ، فحملهم اليه من المدينة وفيهم الرضا علي بن موسى(عليهما السلام) ، فأخذ بهم على طريق البصرة حتى جاؤوا بهم إليه، وكان المتولي لإشخاصهم المعروف بالجَلودي .

فقدم بهم على المأمون فانزلهم داراً ، وانزل الرضا عليّ بن موسى (عليهما السلام) داراً ، وأكرمه وعظّم أمره ، ثم أنفذ اليه :

أني أريد ان اخلع نفسي من الخلافة واُقلدك اياها فما رأيك في ذلك ؟

فأنكر الرضا (عليه السلام) هذا الأمر وقال له :

اعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام ، وأن يسمع به أحد .

فرد عليه الرسالة :

فإذا ابيت ما عرضت عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي .

فأبى عليه الرضا إباءً شديداً ، فاستدعاه اليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين ، ليس في المجلس غيرهم ، وقال له : اني قد رأيت ان اقلدك أمر المسلمين ، وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك . فقال له الرضا (عليه السلام) :

الله الله ـ يا أمير المؤمنين ـ انه لا طاقة لي بذلك ولا قوة لي عليه قال له :

فإني موليك العهد من بعدي فقال له : أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين .

فقال له المأمون كلاماً فيه كالتهديد له على الامتناع عليه ، وقال له في كلامه: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وشرط فيمن خالف منهم ان تُضرب عنقه ، ولا بد من قبولك ما اُريده منك ، فإنني لا أجد محيصاً عنه ، فقال له الرضا (عليه السلام) :

فإني اجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد ، على انني لا آمر ولا أنهى ولا اُفتي ولا أقضي ولا اُوَلّي ولا اعزل ولا أغيّر شيئاً مما هو قائم فأجابه المأمون إلى ذلك كله .

وقد كان الإمام (عليه السلام) مرغَماً على قبول ولاية العهد أي أنه لم يكن له الخيار في رفضها فقد كان المأمون جادّاً في قتله لو تخلف عن قبول البيعة .

فعن الريان بن الصلت أنه قال :

دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فقلت له : يا ابن رسول الله ، ان الناس يقولون انك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا ؟ فقال (عليه السلام) :

قد علم الله كراهتي لذلك فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل ، ويحهم أما علموا ان يوسف(عليه السلام) كان نبياً رسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قال له : ( اجعلني على خزائن الأرض أني حفيظ عليم ) ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على اكراه وإجبار بعد الاشراف على الهلاك ، على اني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه ، فإلى الله المشتكى وهو المستعان[1][70].

وروي عن أبي الصلت الهروي أنه قال :

إن المأمون قال للرضا علي بن موسى (عليه السلام) يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك وأراك احقّ بالخلافة منّي ، فقال الرضا (عليه السلام) : بالعبودية لله عزّوجل افتخر وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا ، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزّوجلّ .

فقال له المأمون : فإني قد رأيت ان اعزل نفسي عن الخلافة ، وأجعلها لك وابايعك ، فقال له الرضا (عليه السلام) : إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز ان تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك ، وان كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك ان تجعل لي ما ليس لك. فقال المأمون : يا ابن رسول الله لا بدّ لك من قبول هذا الأمر ، فقال : لست أفعل ذلك طائعاً أبداً . فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله ، فقال له : فان لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي . فقال الرضا (عليه السلام) : والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسم ، مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض ، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد . فبكى المأمون ثم قال له : يا ابن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة اليك وأنا حيّ ؟ فقال الرضا (عليه السلام) : أما اني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت .

فقال المأمون : يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ، ودفع هذا الأمر عنك ، ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا .

فقال الرضا (عليه السلام) : والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّوجلّ وما زهدت في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد .

فقال المأمون : وما اُريد ؟ قال : الأمان على الصدق ؟ قال : لك الأمان . قال: تريد بذلك أن يقول الناس : إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟

فغضب المأمون ثم قال : إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه . وقد أمنت سطوتي ، فبالله اُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك . فقال الرضا (عليه السلام) : قد نهاني الله عزّوجلّ ان اُلقي بيدي إلى التهلكة ، فإن كان الأمر على هذا ، فافعل ما بدا لك ، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا اُوَلّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سُنّة ، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً .

فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهد على كراهة منه (عليه السلام) لذلك[2][71].

ج ـ مع المؤمنين الواعين
كان المأمون حذراً من الإمام الرضا (عليه السلام) يتحيّن الفرص لاغتياله ، وقد فعل ذلك في أول فرصة مناسبة فأوعز لعملائه باغتياله ، وذلك بعد نحو عامين من ولاية العهد . ففي أول شهر رمضان سنة إحدى ومائتين كانت البيعة للرضا صلوات الله عليه[3][72] وقبض الرضا (عليه السلام) بطوس من أرض خراسان في صفر سنة ثلاث ومائتين وله يومئذ خمس وخمسون سنة..[4][73].

عن أحمد بن علي الانصاري قال : سألت أبا الصلت الهروي فقلت له: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا (عليه السلام) مع اكرامه ومحبته له وما جعل له من ولاية العهد بعده ؟

فقال : ان المأمون انما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس انه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم ، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس إلاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في ان يقطعه واحد منهم فيسقط محله عند العلماء ، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلاّ قطعه وألزمه الحجة ، وكان الناس يقولون : والله إنه أولى بالخلافة من المأمون ، وكان أصحاب الاخبار يرفعون ذلك اليه فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده له ، وكان الرضا (عليه السلام) لا يحابي المأمون في حق وكان يجيبه بما يكره في أكثر احواله فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له ، فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم[5][74].

وعن علي بن ابراهيم ، عن ياسر الخادم قال : لمّا كان بيننا وبين طوس سبعة منازل اعتلّ أبو الحسن (عليه السلام) فدخلنا طوس وقد اشتدّت به العلّة ، فبقينا بطوس أياماً فكان المأمون يأتيه في كل يوم مرتين فلمّا كان في آخر يومه الذي قبض فيه كان ضعيفاً في ذلك اليوم فقال لي بعدما صلّى الظهر : يا ياسر أكل الناس شيئاً ؟ قلت : يا سيدي من يأكل ههنا مع ما أنت فيه؟! فانتصب (عليه السلام) ثم قال : هاتوا المائدة، ولم يدع من حشمه أحداً إلاّ أقعده معه على المائدة يتفقد واحداً واحداً ، فلما اكلوا قال : ابعثوا إلى النساء بالطعام، فحمل الطعام إلى النساء فلمّا فرغوا من الأكل أغمي عليه وضعف ، فوقعت الصيحة وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات ، ووقعت الوصية[6][75] بطوس وجاء المأمون حافياً وحاسراً يضرب على رأسه ، ويقبض على لحيته ، ويتأسف ويبكي وتسيل الدموع على خديه فوقف على الرضا (عليه السلام) وقد أفاق فقال : يا سيدي والله ما أدري أي المصيبتين أعظم عليّ ، فقدي لك وفراقي إياك؟ أو تهمة الناس لي أنا اغتلتك وقتلتك؟ قال : فرفع طرفه اليه ثم قال : أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر ، فإنّ عمرك وعمره هكذا وجمع سبّابتيه .

قال : فلما كان من تلك الليلة قضى(عليه السلام) بعد ما ذهب من الليل بعضه ، فلمّا أصبح اجتمع الخلق وقالوا : هذا قتله واغتاله ـ يعني المأمون ـ وقالوا : قتل ابن رسول الله واكثروا القول والجلبة[76][7]، وكان محمد بن جعفر بن محمد(عليه السلام) استأمن إلى المأمون وجاء إلى خراسان وكان عمّ أبي الحسن فقال له المأمون : يا أبا جعفر أخرج إلى الناس وأعلمهم ان أبا الحسن لا يخرج اليوم، وكره ان يُخرِجه فتقع الفتنة فخرج محمد بن جعفر إلى الناس فقال : ايها الناس تفرقوا فإن أبا الحسن لا يخرج اليوم، فتفرق الناس وغسل أبو الحسن في الليل ودفن[8][77].

وقد استطاع المأمون ان يخدع الكثيرين عندما أظهر حزنه وجزعه على استشهاد الإمام الرضا (عليه السلام) وبصورة أثرت على العوام، لكنها لم تنطل على الخواص . حيث إنهم عرفوا دوافع المأمون وأساليبه وأهدافه ، كما لاحظنا ذلك في نصّ أبي الصلت ، وكما سنلاحظ ذلك في رسالة عبدالله بن موسى التالية.

طبيعة حكم المأمون
لقد شخّص السيد عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، طبيعة حكم المأمون وأساليبه برسالة تسلط مزيداً من الأضواء على العلاقة بين هذا الحاكم وبين الإمام الجواد(عليه السلام) ، فقد كان تشخيص هذا السيد دقيقاً وعميقاً ، فقد كتب المأمون الى عبد الله بن موسى وهو متوار منه يعطيه الأمان ويضمن له ان يوليه العهد بعده ، كما فعل بعلي بن موسى ، ويقول : ما ظننت ان أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا ، وبعث الكتاب اليه.

فكتب عبد الله بن موسى :

وصل كتابك وفهمته ، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص ، وتحتال عليّ حيلة المغتال القاصد لسفك دمي ، وعجبت من بَذْلِك العهد وولايته لي بعدك ، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك ؟ أفي الملك الذي قد غرتك حلاوته ؟! فوالله لاَنْ اُقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي أمراً بين المسلمين أو اشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل، أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا ؟ ام ظننت ان الاستتار قد أمّلني وضاق به صدري؟ فوالله اني لذلك . ولقد مللت الحياة وأبغضت الدنيا ، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك ، ولكن الله قد حظر عليّ المخاطرة بدمي ، وليتك قدرتَ عليَّ من غير أن أبذل نفسي لك فتقتلني ، ولقيت الله عزوجل بدمي ، ولقيتُه قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا .

واعلم أني رجل طالب النجاة لنفسي ، واجتهدت فيما يرضي الله عزوجل عنّي وفي عمل اتقرب به اليه ، فلم أجد رأياً يهدي الى شيء من ذلك ، فرجعت الى القرآن الذي فيه الهدى والشفاء ، فتصفحته سورة سورة ، وآية آية ، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربه من الشهادة في طلب مرضاته .

ثم تتبعته ثانية اتأمل الجهاد أيّه أفضل ، ولأي صنف ، فوجدته جلّ وعلا يقول : ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) ، فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام ، وأقرب من موضعي فلم أجد أضر على الإسلام منك ، لأن الكفار أظهروا كفرهم ، فاستبصر الناس في أمرهم ، وعرفوهم فخافوهم ، وأنت ختلت المسلمين بالاسلام ، وأسررت الكفر ، فقتلت بالظنة ، وعاقبت بالتهمة ، وأخذت المال من غير حِلِّه فأنفقته في غير محله ، وشربت الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين وأعطيته المغنين ، ومنعته من حقوق المسلمين ، فغششت بالاسلام ، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله ، وحكمت فيه للمشرك ، وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند ، فإن يسعدني الدهر، ويعينني الله عليك بأنصار الحق ، أبذل نفسي في جهادك بذلاً يرضيه منّي ، وإن يمهلك ويؤخرك ليجزيك بما تستحقه في منقلبك ، أو تختر مني الايام قبل ذلك ،فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عزوجل من نيتي ، والسلام[9][78]

 

 

     المصدر:سایت السبطین

logo test

اتصل بنا