الإمام الجواد (عليه السلام) ومتطلّبات الجماعة الصالحة

flower 12

    

 

1 ـ الإمام الجواد (عليه السلام) يعالج ظاهرة التشكيك بإمامته
نهض الإمام الجواد (عليه السلام) بأعباء الإمامة الشرعية للمسلمين وهو لما يبلغ الحلم على نحو ما حدث لعيسى بن مريم(عليه السلام) حيث اُوتي النبوّة في المهد، وقد أوجدت هذه الظاهرة حالة من التساؤل والتشكيك لدى البعض من الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) والمعتقدين بإمامتهم بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، لكن الإمام(عليه السلام) استطاع أن يدحض هذه التشكيكات ويجيب على التساؤلات المعلنة والخفيّة بما اوتي من فضل وعلم وحكمة وحنكة .

إن حالة الصبا التي تزامنت مع اضطلاع الإمام (عليه السلام) بأعباء الخلافة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وتصديه لامامة المسلمين في ذلك الوقت المبكّر دفعت ببعض أتباع أهل البيت(عليهم السلام) الى التساؤل والتشكيك .

وأما التساؤلات فقد تمّ حسمها بدرجة ما، من خلال الأحاديث والتوجيهات والإشارات التي صدرت عن والده الإمام عليّ الرضا(عليه السلام) وانتشرت بين مقرّبيه ورؤساء القوى الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) في البلدان كمصر والحجاز والعراق وبلاد فارس.

على أنّ الإمام الجواد(عليه السلام) نفسه قد قام بنشاط واسع لتبديد تلك الشكوك التي اُثيرت بشكل أو بآخر بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) وهو ما نفهمه من خلال بعض الروايات الواردة بهذا الشأن، ومنها ما يلي:

أ ـ أورد السيد المرتضى (رضي الله عنه) في عيون المعجزات أنّه : لما قبض الرضا (عليه السلام) كان سن أبي جعفر (عليه السلام) نحو سبع سنين ، فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد وفي الأمصار ، واجتمع الريّان بن الصلت ، وصفوان بن يحيى ، ومحمد بن حكيم ، وعبد الرحمن بن الحجّاج ، ويونس بن عبد الرحمن ، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول ، يبكون ويتوجّعون من المصيبة ، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن : دعوا البكاء ! مَن لهذا الأمر والى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا ؟ يعني أبا جعفر (عليه السلام) .

فقام اليه الريّان بن الصلت ، ووضع يده في حلقه ، ولم يزل يلطمه ، ويقول له : أنت تظهر الايمان لنا وتبطن الشك والشرك .

إن كان أمره من الله جل وعلا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه ، وان لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس ، هذا ممّا ينبغي أن يفكّر فيه .فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه .

وكان وقت الموسم ، فاجتمع فقهاء بغداد والأمصار وعلماؤهم ثمانون رجلاً ، فخرجوا إلى الحج ، وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام) ، فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق (عليه السلام) لأنها كانت فارغة ، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى ، فجلس في صدر المجلس وقام مناد وقال : هذا ابن رسول الله فمن أراد السؤال فليسأله .

فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم .

واضطرب الفقهاء ، وقاموا وهمّوا بالانصراف ، وقالوا في أنفسهم : لو كان أبو جعفر (عليه السلام) يكمل لجواب المسائل لما كان من عبدا لله ما كان ، من الجواب بغير الواجب .

ففُتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق وقال : هذا أبو جعفر ، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه فدخل صلوات الله عليه ، وعليه قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجليه نعلان وجلس وأمسك الناس كلهم ، فقام صاحب المسألة ، فسأله عن مسائله ، فأجاب عنها بالحق ، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له : إن عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت ، فقال : لا اله الاّ الله ياعمّ إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الاُمة من هو أعلم منك ؟ ! [1] [188].

ب ـ وروي أنّه جيئ بأبي جعفر (عليه السلام) إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موت أبيه ، وهو طفل ، وجاء إلى المنبر ورقا منه درجة ثم نطق ، فقال : أنا محمد ابن علي الرضا ، أنا الجواد ، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب ، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه ، علم منحنا به قبل خلق الخلق أجمعين ، وبعد فناء السماوات والأرضين ، ولولا تظاهر أهل الباطل ، ودولة اهل الضلال ووثوب أهل الشك ، لقلت قولاً تعجّب منه الأوّلون والآخرون . . [2] [189].

ج ـ وقال اسماعيل بن بزيع: سألته ـ يعني أبا جعفر الثاني (عليه السلام) ـ عن شيء من أمر الإمام ، فقلت : يكون الإمام ابن أقلّ من سبع سنين ؟ فقال : نعم وأقل من خمس سنين [3][190] .

د ـ قال علي بن أسباط : رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد خرج عليّ فأخذت أنظر إليه وجعلت انظر الى رأسه ورجليه ، لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد ، فقال(عليه السلام) : ياعليّ ! ان الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة ، فقال : ( وآتيناه الحكم صبياً ) [4] [191]( ولمّا بلغ اشده ) [5][192]( وبلغ اربعين سنة ) [6][193] ، فقد يجوز ان يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز ان يؤتاها وهو ابن اربعين سنة[7] [194].

إنّ تصدي الإمام الجواد (عليه السلام) لإمامة المسلمين وهو صبي كان معجزة بذاته .

وسنتطرق فيما بعد الى ما أظهره من المعارف الإلهية ، وقد ذكرنا نماذج من تحدّيه لكبار الفقهاء ومنهم قاضي قضاة الدولة العباسيّة مع ما كان عليه من كبر السن، ولاشك أنّ ذلك من مصاديق الصفة الإعجازية في الإمام(عليه السلام) ومن الأدلة التي تجسّد مدى علاقته وتؤكد عمق ارتباطه بالله تعالى وقربه منه وحجم الدعم الغيبي الذي كان يحظى به الإمام(عليه السلام) من عند الله عزوجل .

2 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والبناء الثقافي للجماعة الصالحة
لقد توخى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تحقيق عزة الاسلام والمسلمين من خلال المواقف والتحركات الحكيمة التي تضمن الوصول الى الهدف المطلوب على احسن وجه . وكان تحرك الإمام الجواد (عليه السلام) ينطلق من هذه الرؤية فكان ذلك التحرك واسعاً ومؤثراً رغم كل الظروف المعرقلة التي أحاطت تحركه وفي هذا المجال نشير الى نماذج من تحرك الإمام (عليه السلام) في الميادين التي كان يتوخى منها إعداد الاُمة وطلائعها إعداداً رسالياً . ومن هذه الميادين :

أ ـ تعميق البناء الفكري :
كان اهتمام الإمام الجواد (عليه السلام) في بناء الجانب العقائدي في شخصية الانسان المسلم واضحاً للناظر في تراثه الذي ورثناه والذي يحتوي على مفردات اساسية تتقوم بها العقيدة ومن ذلك :

الإمام والدعوة الى التوحيد الخالص :

التوحيد اساس العقيدة الاسلامية ، وسلامة تصورات المسلم عن الله تعالى هي الركيزة الجوهرية التي تستند عليها باقي المفردات العقيدية ، من هنا كان الإمام(عليه السلام) يُعنى عناية شديدة بإيضاح هذا الاساس وتجليته ، وفي المحاضرة التي ألقاها على داود بن القاسم الجعفري دليل على ما قلناه .

فقد قال الجعفري : قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام) : ( قل هو الله أحد ) ، ما معنى: الأحد ؟

قال: المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) [8][195] ، ثم يقولون بعد ذلك : له شريك وصاحبة .

فقلت : قوله : ( لا تدركه الأبصار ) [9][196] .

قال : ياأبا هاشم ! اوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند ، والبلدان التي لم تدخلها ، ولم تدرك ببصرك ذلك ، فأوهام القلوب لا تدركه ، فكيف تدركه الأبصار ؟ !

وسئل (عليه السلام) : أيجوز ان يقال لله : انه شيء ؟

فقال : نعم ، تخرجه من الحدّين : حدّ التعطيل وحدّ التشبيه [10[197]][11][198] .

وعن أبي هاشم الجعفري ، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني(عليه السلام) فسأله رجل ، فقال : أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له اسماء وصفات في كتابه ؟ وأسماؤه وصفاته هي هو ؟

فقال أبو جعفر(عليه السلام) : ان لهذا الكلام وجهين : إن كنت تقول : هي هو، اي انه ذو عدد وكثرة ، فتعالى الله عن ذلك . وان كنت تقول : هذه الصفات والأسماء لم تزل ، فإنّ لم تزل محتمل معنيين : فان قلت : لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها ، فنعم، وان كنت تقول : لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله ان يكون معه شيء غيره . بل كان الله ولا خلق ، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها اليه ويعبدونه وهي ذكره ، وكان الله ولا ذكر ، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل .

والاسماء والصفات مخلوقات ، والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف ، وانما يختلف ويأتلف المتجزئ فلا يقال : الله مؤتلف ، ولا الله قليل ولاكثير ، ولكنه القديم في ذاته ، لأن ما سوى الواحد متجزئ ، والله واحد لا متجزئ ، ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزئ او متوهم بالقلة والكثرة ، فهو مخلوق دالّ على خالق له .

فقولك : ان الله قدير خبّرت انه لا يعجزه شيء ، فنفيت بالكلمة العجز وجعلتالعجز سواه .

وكذلك قولك : عالم انما نفيت بالكلمة الجهل ، وجعلت الجهل سواه ، واذا أفنى الله الاشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ، ولا يزال من لم يزل عالماً .

فقال الرجل : فكيف سمّينا ربنا سميعاً ؟

فقال : لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالاسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس .

وكذلك سمّيناه بصيراً لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار ، من لون او شخص او غير ذلك ، ولم نصفه ببصر لحظة العين .

وكذلك سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك ، وموضع النشوء منها ، والعقل والشهوة للفساد والحدب على نسلها وإقام بعضها على بعض ، ونقلها الطعام والشراب الى اولادها في الجبال والمفاوز والاودية والقفار ، فعلمنا ان خالقها لطيف بلا كيف ، وانما الكيفية للمخلوق المكيّف .

وكذلك قويّاً لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة ، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وما كان ناقصاً كان غير قديم ، وما كان غير قديم كان عاجزاً .

فربّنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضدّ ولا ندّ ولاكيف ولانهايةولا تبصار بصر ، ومحرّم على القلوب أن تمثّله ، وعلى الأوهام ان تحدّه ، وعلى الضمائر ان تكوّنه ، جلّ وعز عن أداة خلقه وسمات بريّته ، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً .[12][199] .

 

مكافحة الغلو:
من الانحرافات الخطيرة التي انتشرت عند البعض الغلو بأهل البيت (عليهم السلام). وقد وقف الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالمرصاد للمغالين فيهم فردّوهم وأفحموهم وأمروا أتباعهم بالابتعاد عنهم .

وقد سار الإمام الجواد (عليه السلام) على نهج آبائه في هذه المسألة وكان حذراً من نشأة بذور الغلو، كما يظهر ذلك من خلال ترصّده لبعض الممارسات ومن الادلة على هذا الأمر ، ما ذكره المؤرخون عن الحسين بن محمد الاشعري حيث قال : حدثني شيخ من أصحابنا يقال له عبد الله بن رزين قال : كنت مجاوراً بالمدينة مدينة الرسول وكان أبو جعفر (عليه السلام) يجيء في كل يوم مع الزوال الى المسجد فينزل الى الصخرة ويمرّ الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويسلّم عليه ، ويرجع الى بيت فاطمة ويخلع نعله فيقوم فيصلّي فوسوس اليّ الشيطان ، فقال : اذا نزل فاذهب حتى تأخذ من التراب الذي يطأ عليه فجلست في ذلك اليوم انتظره لأفعل هذا .

فلمّا ان كان في وقت الزوال أقبل (عليه السلام) على حمار له فلم يزل في الموضع الذي كان ينزل فيه فجازه حتى نزل على الصخرة التي كانت على باب المسجد ثم دخل فسلّم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم رجع الى مكانه الذي كان يصلّي فيه ففعل ذلك أياماً فقلت اذا خلع نعليه جئت فأخذت الحصا الذي يطأ عليه بقدميه .

فلما كان من الغد جاء عند الزوال فنزل على الصخرة ثم دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وجاء الى الموضع الذي كان يصلّي فيه ولم يخلعهما ففعل ذلك أياماً فقلت في نفسي : لم يتهيأ لي ههنا ولكن اذهب الى باب الحمّام فاذا دخل اخذت من التراب الذي يطأ عليه فسألت عن الحمّام فقيل لي انه يدخل حمّاماً بالبقيع لرجل من ولد طلحة ، فتعرّضت اليوم الذي يدخل فيه الحمّام ، وصرت الى باب الحمّام وجلست الى الطلحي احدِّثه وانا انتظر مجيئه (عليه السلام) .

فقال الطلحي : ان اردت دخول الحمام فقم فادخل فانه لا يتهيأ لك بعد ساعة ، قلت : ولم ؟ قال : لان ابن الرضا(عليه السلام) يريد دخول الحمام ، قال : قلت : ومَن ابن الرضا ؟ قال : رجل من آل محمد(صلى الله عليه وآله) له صلاح وورع ، قلت له : ولا يجوز ان يدخل معه الحمام غيره ؟ قال : نخلي له الحمام اذا جاء ، قال : فبينا انا كذلك إذ أقبل(عليه السلام) ومعه غلمان له ، وبين يديه غلام ، ومعه حصير حتى ادخله المسلخ ، فبسطه ووافى وسلّم ودخل الحجرة على حماره ، ودخل المسلخ ، ونزل على الحصير .

فقلت للطلحي : هذا الذي وصفته بما وصفته من الصلاح والورع ؟

فقال : ياهذا والله ما فعل هذا قط الا في هذا اليوم ، فقلت في نفسي : هذا من عملي أنا جنيته ، ثم قلت : انتظره حتى يخرج فلعلّي أنال ما أردت إذا خرج. فلمّا خرج وتلبّس دعا بالحمار وأدخل المسلخ ، وركب من فوق الحصير وخرج (عليه السلام) ، فقلت في نفسي : قد والله آذيته ولا أعود أروم ما رمت منه أبداً وصحّ عزمي على ذلك . فلمّا كان وقت الزوال من ذلك اليوم أقبل على حماره حتى نزل في الموضع الذي كان ينزل فيه في الصحن ، فدخل فسلّم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجاء الى الموضع الذي كان يصلّي فيه في بيت فاطمة(عليها السلام) وخلع نعليه وقام يصلّي[1][200].

ب ـ تعميق البناء العلمي
ومن جملة المجالات التي تحرّك فيها الإمام الجواد (عليه السلام) هو إكماله لبناء الصرح العلمي الذي أشاده الائمة (عليهم السلام) من آبائه الكرام ، وفي سياق هذا النشاط نلاحظ إجابته على الاستفسارات العلمية والاستفتاءات الفقهية التي كانت تستجد للطائفة الشيعية والامة الاسلامية آنذاك .

والأهم من ذلك ملاحظة نشاطه في اكمال الأدوات والمنهج العلمي.

إكمال الأدوات والمنهج العلمي :

تشكّل القواعد الاُصولية جزءً من المنهج العام لفهم الشريعة واستنباط أحكامها . ونوجز منهجه (عليه السلام) فيمايلي :

أ ـ عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسيرها من الأئمّة (عليهم السلام) .

فقد روي في الكافي عن الإمام الجواد(عليه السلام) أنه قد روى عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) أنّ رجلاً سأل أباه محمّد الباقر(عليه السلام) عن مسائل ، فكان ممّا دار بينهما أن قال : قل لهم : هل كان فيما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من علم الله ـ عزّ ذكره ـ اختلاف ؟ فإن قالوا لا ، فقل لهم : فمن حكم بحكم الله فيه اختلاف ، فهل خالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ فيقولون : نعم ، فإن قالوا : لا ; فقد نقضوا أوّل كلامهم ; فقل لهم : ما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم . فإن قالوا : من الرّاسخون في العلم ؟ فقل : من لا يختلف في علمه . فإن قالوا: فمن هو ذاك ؟ فقل : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) صاحب ذلك ـ إلى أن قال ـ : وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف في علمه أحداً فقد ضيّع من في أصلاب الرّجال ممّن يكون بعده .

قال أيضاً: وما يكفيهم القرآن ؟ قال : بلى ، إن وجدوا له مفسّراً .

قال : وما فسّره رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال : بلى قد فسّره لرجل واحد ، وفسّر للاُمّة شأن ذلك الرجل ، وهو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)[2][201].

وقال(عليه السلام) أيضاً : والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شيء واحد ; فمن حكم بما ليس فيه اختلاف ، فحكمه من حكم الله عزّوجلّ ; ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب ، فقد حكم بحكم الطاغوت[3][202] .

ب ـ وجوب العمل بأحاديث الأئمّة (عليهم السلام) المنقولة في الكتب المعتمدة.

فقد جاء في الكافي أيضاً عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شنبولة ، أنّه قال : قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام) : جعلت فداك ، إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقيّة شديدة ، فكتموا كتبهم ، ولم ترو عنهم ، فلمّا ماتوا صارت الكتب إلينا .

فقال (عليه السلام) : حدّثوا بها ، فإنّها حقّ[4][203].

ج ـ جواز العمل بقول من أجازه الإمام (عليه السلام) في العمل برأيه .

فقد جاء في رجال الكشّي: عن خيران الخادم أنّه قال : وجّهت إلى سيّدي [5][204] ثمانية دراهم ـ في حديث ـ وقال :

قلت : جعلت فداك ، إنّه ربّما أتاني الرجل لك قبله الحقّ ، أو يعرف موضع الحقّ لك ، فيسألني عمّا يعمل به ، فيكون مذهبي أخذ ما يتبرّع في سرّ ؟

قال : اعمل في ذلك برأيك ، فإنّ رأيك رأيي ، ومن أطاعك فقد أطاعني [6][205].

د ـ عدم جواز الافتاء من دون علم

فقد مرّ أنه حينما توفي الإمام الرضا (عليه السلام) كان عمر أبي جعفر (عليه السلام) حينذاك سبع سنين، فاختلفت كلمة الشيعة حوله ببغداد والأمصار فاجتمع وجهاء الشيعة وفقهاؤهم في الموسم ليشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام) فوجدوا في دار جعفر الصادق(عليه السلام) عبد الله بن موسى قد جلس في صدر المجلس وكان يُسأل فيجيب بأجوبة دعتهم الى الحيرة فاضطربوا وهمّوا بالانصراف ، واذا بموفّق الخادم يدخل عليهم مع أبي جعفر (عليه السلام) فقاموا اليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه ثم جلس وبدأوا بالسؤال فكان يجيب على أسئلتهم بالحق . ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له : إن عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت فقال (عليه السلام) :

لا إله إلاّ الله ! ياعمّ ! إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك ؟ ! [7][206]

الاجابة على الاستفتاءات الفقهيّة والاستفسارات العلمية:

لقد أسهمت إجابات الإمام الجواد(عليه السلام) على الاستفتاءات الفقهية وغيرها من الاستفسارات العلمية في البناء العلمي للجماعة الصالحة ولك أن تلاحظها في النصوص التالية:

وقت صلاة الفجر: عن الحصين بن أبي الحصين ، قال : كتبت الى أبي جعفر(عليه السلام) : جعلت فداك ، اختلف مواليك في صلاة الفجر ، فمنهم من يصلّي اذا طلع الفجر الاول المستطيل في السماء ، ومنهم مَن يصلي اذا اعترض في أسفل الارض واستبان ، ولست اعرف افضل الوقتين فاُصلي فيه . فان رأيت يامولاي جعلني الله فداك ان تعلّمني افضل الوقتين ، وتحدّ لي كيف اصنع مع القمر والفجر لأتبين معه حتى يحمرّ ويصبح ؟ وكيف أصنع مع الغيم ؟ وما حدّ ذلك في السفر والحضر ؟ فعلت إن شاء الله .

فكتب بخطّه (عليه السلام) : الفجر ـ يرحمك الله ـ الخيط الابيض ، وليس هو الأبيض صعداً ، ولا تصلّ في سفر ، ولا في حضر حتى تتبيّنه ـ رحمك الله ـ ، فان الله لم يجعل خلقه في شبهة من هذا ، فقال تعالى : ( كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسود من الفجر )[8][207] فالخيط الابيض هو الفجر الذي يحرم به الأكل والشرب في الصيام ، وكذلك هو الذي يوجب الصلاة[9][208].

البسملة في الصلاة: عن يحيى بن أبي عمران الهمداني ، قال : كتبت الى أبي جعفر(عليه السلام) : جعلت فداك ، ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في ام الكتاب ، فلمّا صار الى غير اُم الكتاب من السورة تركها ؟ فقال العباسي [10] [209]: ليس بذلك بأس .

فكتب بخط يده: يعيدها مرتين على رغم انفه ـ يعني العباسي ـ [11] [210].

الإكراه في الزواج: جاء في رواية علي بن مهزيار عن محمد بن الحسن الاشعري ، قال :

كتب بعض بني عمي الى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما تقول في صبيّة زوّجها عمّها ، فلمّا كبرت أبت التزويج ؟

فكتب بخطه (عليه السلام): لا تكره على ذلك ، والأمر أمرها[12][211].

حكم الوقف: عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي ، قال : كتبت الى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) اسأله عن أرض أوقفها جدّي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير ، متفرقون في البلاد ؟

فأجاب (عليه السلام) : ذكرت الارض التي أوقفها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف ، وليس لك ان تتبع من كان غائباً[13][212].

شهادة الزوج وغير الزوج: عن محمد بن سليمان أنه قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام) : كيف صار الزوج اذا قذف امرأته كانت شهادته أربع شهادات بالله ؟ وكيف لا يجوز ذلك لغيره وصار اذا قذفها غير الزوج جلد الحدّ ، ولو كان ولداً او أخاً ؟

فقال : قد سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن هذا ، فقال : الا ترى انه اذا قذف الزوج امرأته ، قيل له : وكيف علمت انها فاعلة ؟ فان قال : رأيت ذلك منها بعيني ، كانت شهادته اربع شهادات بالله ، وذلك انه قد يجوز للرجل ان يدخل المدخل في الخلوة التي لا تصلح لغيره ان يدخلها ولا يشهدها ولد ولا والد في الليل والنهار ، فلذلك صارت شهادته اربع شهادات بالله اذا قال : رأيت ذلك بعيني .

واذا قال : اني لم اُعاين ، صار قاذقاً في حدّ غيره ، وضرب الحدّ إلاّ أن يقيم عليها البيّنة، وإن زعم غير الزوج اذا قذف وادّعى أنه رآه بعينه قيل له : وكيفرأيت ذلك ؟ وما ادخلك ذلك المدخل الذي رأيت فيه هذا وحدك ؟ انت متّهم في دعواك ، وان كنت صادقاً فأنت في حدّ التهمة ، فلا بدّ من أدبك بالحدّ الذي أوجبه الله عليك .

قال : وانما صارت شهادة الزوج اربع شهادات بالله لمكان الاربعة شهداء مكان كل شاهد يمين [14][213].

إنّ ما ذكر من الامثلة السابقة نماذج لبعض توجهات الإمام الجواد (عليه السلام) وهو تفقيهه لشيعته ومواليه عن طريق مراسلتهم إياه او سؤاله بصورة مباشرة .

ج ـ تعميق البناء التربوي
من المفردات الاساسية التي اهتم بها الإمام الجواد (عليه السلام) هو مسألة بناء الخلق الاسلامي عند الفرد والمجتمع .

وقد كان الإمام (عليه السلام) وفي سياق تربية الامة ينقل لهم احاديث اجداده خصوصاً امير المؤمنين (عليه السلام) لما تحتويه من توجيهات تربوية عميقة ومؤثرة وفي هذا المجال سنعتبر كلمات الإمام الجواد (عليه السلام) وما نقله عن اجداده الائمة (عليهم السلام) وطرحه للاُمة مادة لفهم توجهاته التربوية .

 

 

       المصدر:سایت السبطین

logo test

اتصل بنا