منهج الإمام الصادق عليه السلام في مواجهة مشكلات العصر

 
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد دخل إلى هذا المحراب قبلي آلاف الداخلين ووقفوا في رحابه خاشعين متأملين متفحصين، وما شعروا يوماً أنهم شبعوا تأملاً وتفحصاً واستقراء وبحثاً. بل أحسّوا دوماً أن هذا المحراب يزيدهم حُسناً كلما زادوه نظراً، ويزيدهم علماً كلما زادوه اعتباراً وتبصراً وتدبيراً.
فهل أعود، في موقفي هذا، إلى ما استجلاه السابقون واللاحقون والقدماء والمحدثون من محراب الإمام الصادق (عليه السلام) وما استخرجوه من كنوزه مما تفيض به مئات المصنفات؟
هل أتحدث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حكمته وتجلياتها، أم أتكلم عن شريف نسبه وعلو مكانته، أم أقرضه في علمه وتقاه وفضله أم أردد ما قاله خصومه وأعداؤه قبل أتباعه في كل هذه الصفات الساميات؟!.
وإذا فعلت أمامكم. ألا أكون كحامل الثمر إلى هجر؟! ألا تقولون وأنتم تستمعون إليّ: هذه بضاعتنا ردت إلينا؟!
لقد فضلت أن أترك كل هذا، اعتقاداً مني أني لن أضيف جديداً، ولن أعود من محراب الإمام بمكرّر معاد وخصوصاً أني عاجز اللمح والاستخراج ورؤية ما لا تراه إلا عين ثاقبة أبو بصيرة تنفذ إلى ما وراء الظواهر.
ما الذي يبقى لي أن أفعل أو أقول؟
سأحمل همومي ومشكلاتي والتحديات التي يطرحها عليّ عصري، وأذهب بها إلى محراب الإمام (عليه السلام) بوصفه عالماً بالقرآن والسنة، وبوصفه عالماً بأحوال عصر عاش فيه واختلفت أحواله ومشكلاته وتحدياته عن أحوال ومشكلات وتحديات عصر مبلغ القرآن والسنة (صلى الله عليه وآله). أذهب إليه أسأله كيف تعامل مع عصره المختلف عن عصر جدِّه بوحي من القرآن والسنة، وبما يحفظ القرآن والسنة وأمة القرآن والسنة، وبما يستجيب لمشكلات العصر وتحدياته، وهدفي من كل ذلك أن أقتبس بعض نور المنهج الذي أرساه الإمام، علّنا نستفيد منه في مواجهة مشكلات عصرنا. إنه هدف عملي جهادي.
بالعودة إلى عصر الإمام الصادق (عليه السلام) أي ما بين عامي ثلاثة وثمانين وتسعة وأربعين بعد المائة من التقويم الهجري. نلاحظ أنه عاش نحواً من ثمانية وأربعين عاماً في عهد الأمويين وبقية حياته في عهد العباسيين، كانت وفاته (عليه السلام) بعد عشر سنوات من خلافة المنصور.
في هذا العصر كانت الفتوحات قد توقفت أو كادت، وكانت عناصر حضارات متباينة تتلاقى وتتواجد مستفيدة من ضعف سلطة الأمويين ومن انفتاح سلطة العباسيين على العناصر الأعجمية لتوظف خبراتها في إدارة الدولة وفي ترجمة العلوم والمنطق والفلسفة.
في هذه المواجهة كان الإسلام من جهة، وبقايا المزدكية والمانوية والزرادشتية والزنادقة وبعض أهل الكتاب، أو من لهم شبهة كتاب من جهة ثانية.. وأهل المعرفة من هؤلاء كانوا متشبعين بآثار الفلسفة اليونانية كما انتهت إليه في مدارس الإسكندرية والرها وأنطاكيا ونصيبين، أي بصورتها الأفلاطونية المحدثة وتأويلاتها الغنوصية بالإضافة إلى الهرمسية نسبة إلى هرمس الحكيم الذي أخذت مقولاته طريقها إلى الشيوع في زمن مبكر. أما فكر أرسطو فسيظل باستثناء بعض كتب المنطق مغيّباً حتى عهد المأمون.
إلى ذلك، وتحت تأثير هذا اللقاء والمواجهة من جهة، وتحت تأثير الصراعات السياسية الداخلية من جهة ثانية، أخذت تظهر بين المسلمين تيارات كان أخطرها فيما يبدو ذلك التيار المغالي والذي تشكل من المندسين في صفوف أصحاب أهل البيت قصد التشويه والتخريب وذلك من خلال الغلو في أهل البيت وجعلهم فوق مستوى البشر، وإعطائهم صفات الآلهة مع زعمهم أنهم ممثلون ورسل لآل البيت، وليسهل عليهم خداع الناس وتضليلهم، لما يحملون من محبة وولاء داخلي لآل البيت (عليه السلام).
يضاف إلى ذلك أخذت تظهر اتجاهات في علم الكلام وفي رواية الحديث وفي تأويل القرآن ظهر أن الهدف منها تبرير وجود السلطات التي تحكم باسم الإسلام دون أن تطبق شريعته إلا بالحدود الدنيا التي لا تتعارض مع استمرار سلطاتها.
ولا ننسى ظاهرة الانفصام بين المعتقد والسلوك بين القول والفعل التي أخذت تنتشر في صفوف المسلمين وتصل إلى أتباع الإمام الصادق (عليه السلام) أنفسهم.
على أن أخطر ما واجهه الإمام الصادق (عليه السلام) هي تلك الدعوات للخروج على السلطات الحاكمة في عصره. خصوصاً عندما كانت الأجواء مؤاتية إبان الدعوة للخلاص من الأمويين، حيث كان العباسيون يدعون للرضا من آل محمد، في محاولة منهم لاستغلال مشاعر مجمل المسلمين الموالية لآل البيت والمعادية لمظالم معظم السلاطين الأمويين.
لقد عاش الإمام الصادق (عليه السلام) عصره وقضاياه ووضع نصب عينيه أن يواجه مشكلاته وتحدياته باتجاه حفظ الشريعة من الأخطار المحدقة بها، فكيف تصرّف تجاه هذه الأخطار؟ يمكن أن نلاحظ:

1 - إن الإمام الصادق (عليه السلام) لم يغمض عينه ولم يصم أذنيه عن هذه الوقائع المستجدة، بل انفتح عليها وعرفها جيداً، ليتمكن من مواجهتها، انطلاقاً من العقيدة الإسلامية وإلا فكيف نفهم هذه القدرة على مواجهة كافة الخصوم بما يلزم السكوت والاندحار.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (الإمام الصادق ص95): (إن الصادق كان على علم دقيق بالفلسفة ومناهج الفلاسفة وعلى علم بمواضع التهافت عندهم، وإنه كان مرجع عصره في رد الشبهات وقد كان بهذا جديراً وذلك لانصرافه المطلق إلى العلم ولأنه كان ذا أفق واسع في المعرفة لم يتسن لغيره من علماء عصره، فقد كانوا محدثين أو فقهاء أو علماء كلام أو علماء في الكون وكان هو كل ذلك).
بهذا العلم وبهذه المعرفة استطاع الإمام أن يواجه الأطروحات الغربية وتحدياتها الموجهة ضد الإسلام، ومن شاء التفاصيل فهو يجدها في مظانها.
2 - إن الإمام الصادق (عليه السلام) لم يكتف بالرد على الخصوم وتهفيت حججهم. بل سعى لتعليم وتدريب أعداد كبيرة مهيأة للقيام بمثل ما يقوم به في أمكنة أخرى وفي أزمنة أخرى. لتظل إمكانات المواجهة متاحة حفاظاً على المسلمين من الخداع والتضليل... فلنلاحظ هنا ما يعطيه من دور للتعليم وللإعلام في العمل الإسلامي.
3 - إن الإمام الصادق (عليه السلام) لم يسمح للغلاة أن يقولوا فيه وفي آل البيت ما ليس فيهم مما يسيء إلى العقيدة بأصولها ومبادئها، ولم يمنعه تقربهم منه ولا محاباتهم له أو الدعوة إليه أن يقف ضدهم بحزم ويلعنهم ويكفرهم ويبرأ منهم. وأن يُعلّم أتباعه المخلصين أن ينقلوا عنه وأن يعلِّموا الناس أن لا يقبلوا كل ما يرويه الرواة عنهم وأن لا يقبلوا إلا ما وافق القرآن والسنة أو ما يجدون عليه شاهداً من أحاديثهم المتقدمة، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) بعد أن بلغه أن أحد الغلاة (بشار الشعيري) يقول فيه ما يؤدي إلى الإشراك، قال (عليه السلام): (إني عبد الله وابن عبد الله ضمتني الأصلاب والأرحام وإني لميت ومبعوث ثم مسؤول...).
4 - إن الإمام الصادق حذّر أصحابه ورواد دروسه من الانفصام بين القول والفعل أو بين المعتقد والسلوك ونصحهم بأن يعلِّموا الناس ويستميلوهم بسلوكهم لا بمواعظهم وإرشاداتهم.
5 - إن الإمام الصادق تعامل مع الظروف السياسية لعصره بأقصى ما يمكن من الحكمة وتقدير ما نسميه في اللغة السياسية الحديثة موازين القوى بصورة دقيقة لكي لا يتحول الخروج إلى فتنة تتصبب لها دماء المسلمين ولا تزيد الظالم إلا ظلماً وانتقاماً.
على أن ذلك لم يكن يعني السكوت، بل مجاهدة الظالم ولكن بأسلوب يقوم على الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات وسياسيات، وانتظار التغيير في موازين القوى، والسهر على الأتباع ومساعدتهم لكي لا يقعوا في فخاخ الظالمين بفعل الحاجة إلى اللقمة أو بعض المكاسب.

* * *

•• والآن ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من سيرة الإمام الصادق (عليه السلام) ومن جهاده.

1 - ضرورة الاطلاع على مشكلات العصر وتحدياته، وضرورة العودة إلى القرآن والسنة في استيعابها ومواجهتها وإيجاد حلول ملائمة لها بما يحفظ الشريعة ويحفظ الناس. وهذا ما يجب أن يكون في أولويات عمل المجاهدين الإسلاميين.
2 - اعتماد التربية الإسلامية ومواجهة الانحرافات الحديثة المتأثرة بالليبرالية والاشتراكية وسائر الفلسفات الغريبة عن مقاصد الشرائع السماوية عموماً والإسلام خصوصاً والسعي إلى مواصلة تحصين الناس والدعاة ضد هذه الأفكار باستيعابها أولاً ونقدها بعمق ثانياً.
3 - تصفية أطروحاتنا وأفكارنا من كل مظاهر الغلو بعد رصدها ونقدها.
4 - السعي لردم الهوة بين ما نقول وما نفعل، ما ندعو إليه وما نمارسه خصوصاً على مستوى الدعاة وفي مقدمتهم العلماء الأفاضل.
5 - وكل هذا لا يكون ممكناً إلا إذا شعر المسلمون خصوصاً قادتهم من العلماء والمفكرين بالمسؤولية العميقة عن مستقبل أمتهم، وضبطوا فكرهم وسلوكهم على إيقاع دينهم الحنيف وتصدوا لمشكلات عصرهم بوحي من تعاليم الإسلام وبتطلع إلى مستقبل الأمة، تطلع مسكون بهواجس حفظها ومنعتها وتقدمها كما فعل الإمام الصادق في عصره. وأساس كل ذلك ومنطلقه إنما هو الإيمان بالله وإخلاص الوجه إخلاصاً تاماً لله ولمقاصد شرائعه السماوية مكتملة ومتجسدة بالإسلام الحنيف.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الشيخ زهير كنج 

 

المصدر: https://research.rafed.net

 

logo test

اتصل بنا