خطبة الإمام السجاد عليه السلام عند رجوعه إلى المدينة

flower 12

   

  

وعندما اقترب ركب سبايا آل محمّد من المدينة أمر الإمام السجاد (عليه السلام) بحطّ الرحال، وضرب فسطاطه وأنزل النساء والأطفال، ثمّ قال لبشير بن حذلم: يا بشير رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه؟ فقال: بلى يابن رسول الله إنّي لشاعر. فقال (عليه السلام): فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله.

قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة فلمّا بلغت مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لامقام لكم بها­    قُتِلَ الحسين فأدمُعي مدرار­

الجسم منه بكربلاء مضرّجٌ­     والرأس منه على القناة يُدارُ­

ثم قال: هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكُم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم اُعرّفكُم مكانه، فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ برزن من خدورهن مكشوفة شعورهن مخمّشة وجوههن ضاربات خدودهنّ يدعون بالويل والثبور، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه.

ثمّ قال: سألتني جارية: أيّها الناعي جدّدتَ حزننا بأبي عبد الله وخدشتَ منّا قروحاً لمّا تندمل، فمَن أنت رحمك الله؟ فقلت: أنا بشير بن حذلم وجّهني مولاي علي بن الحسين عليهما الصلاة والسلام، وهو نازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله ونسائه.

قال: فتركوني مكاني وبادروا. فضربتُ فرسي حتى رجعتُ إليهم فوجدتُ الناس قد أخذوا الطرق والمواضع، فنزلت عن فرسي وتخطّيت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط، وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) داخلاً ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسيّ فوضعه له وجلس عليه، والناس من كلّ ناحية يعزّونه، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا، فسكنت فورتهم، فقال (عليه السلام):

«الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الاُمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاضعة الكاظمة الفادحة الجائحة.

أيّها الناس إنّ الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله وعترته، وسُبي نساءه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

ايّها الناس فأيّ رجالات منكم يُسرّون بعد قتله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها، فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار، والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون.

أيّها الناس أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثُلمت في الإسلام؟!

أيّها الناس أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين شاسعين عن الأمصار كأنّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إن هذا إلاّ اختلاق.

والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاءة بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأوجعها وأفجعها، وأكظّها، وأفظّها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا إنّه عزيز ذو انتقام»[1].


 

المصدر:http://www.room-alghadeer.net

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بحار الأنوار 45: 147-149.

logo test

اتصل بنا