عناصر الأخلاق عند الإمام الرضا (ع) على ضوء القرآن

flower 12

بسم الله الرحمن الرحيم

تستبطن فلسفة الاخلاق في اى فكر عناصر اساسية من الضروري دراستها و تحليلها، و من هذه العناصر: الإلزام، المسؤولية، الجزاء، النية، و الجهد.
1ـ الالزام
ان القيمة الاخلاقية تستبطن دائما عنصرا الزاميا، لان النفس الانسانية جبلت على الاحساس بالخير و الشر. و القانون الذي يصيغه الانسان لتنظيم أمر حياتي معين قد يرغم الناس على الالتزام به، و لكنه لا يستطيع ان يلزمهم الزاما اخلاقيا، و متى ما يصبح الالزام قهرا فانه يفقد بذلك صفته الاخلاقية، (1) و الى هذا المعنى يشير كلام الامام الرضا.
«ان الله عز و جل لم يطع باكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه، و هو المالك لما ملكهم، و القادر على ما اقدرهم عليه، فان ائتمر العباد بالطاعة لم يكن الله عنها صادا، و لا منها مانعا، و ان ائتمروا بمعصيته فشاء ان يحول بينهم و بين ذلك فعل، فان لم يحل و فعلوه فليس هو الذي ادخلهم فيها.» (2)
و قد يستخلص من كلام الرضا(ع) الى ان العقل هو احد مصادر الالزام، مع العلم ان المصدر الرئيسي للالزام هو الله سبحانه. فقد قال له ابن السكيت:
«ما الحجة على الخلق اليوم؟ قال(ع): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه، و الكاذب على الله فيكذبه» (3) .
و قد ورد عنه(ع): عن النبي(ص) يقول:
«قال الله تعالى: من لم يرض بقضائي و لم يؤمن بقدري، فليلتمس الها غيرى». (4)
و في زيارة الامام الرضا، اشارة الى انه ألزم نفسه بالسير على طريق الهدى، و هو طريق التوحيد و الاسلام، فلم يؤثر عمى على هدى و لم يمل من حق الى باطل.
«السلام عليك يا إمام الهدى و العروة الوثقى و رحمة الله و بركاته أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه آباؤك و الطاهرون صلوات الله عليهم لم تؤثر عمى على هدى و لم تمل من حق الى باطل و أنك قد نصحت لله و لرسوله و أديت الأمانة فجزاك الله عن الاسلام و أهله خير الجزاء.» (5)
و قد اشار القرآن ايضا الى الالزام، و اوضح بان النفس الانسانية قد جبلت على الاحساس بالخير و الشر، و ان الواجب الشرعي مطابق للمفهوم الاخلاقي. يقول تعالى:
«بل الانسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره». (6)
و يقول:
«و نفس و ما سواها فالهمها فجورها و تقواها» (7)
و يقول ايضا:
«و أما من خاف مقام ربه، و نهى النفس عن الهوى، فان الجنة هي المأوى». (8)
2ـ المسؤولية
و هي الاستعداد الفطري و القدرة بان يلزم المرء نفسه اولا، و أن يفي بالتزامه ثانيا، فعندما يؤدي الانسان عملا ما لا بد ان يقدم ملفه و حساباته لصاحب العمل، ليجازيه على عمله و هذه فكرة الجزاء. (9)
ان الله سبحانه يحدد المسؤولية العامة للانسانية، من خلال تحديده الامانة التي عرضها على الانسان، و هي الولاية الهية، فابت السموات و الارض و الجبال ان يحملنها، لعدم اشتمالها على صلاحية التكلف، فحملها الانسان. (10) يقول تعالى:
«انا عرضنا الأمانة على السموات و الارض و الجبال فأبين ان يحملنها، و اشفقن نها، و حملها الانسان، انه كان ظلوما جهولا». (11)
و يقول:
«و قفوهم انهم مسؤولون» (12)
و يقول:
«أيحسب الانسان ان يترك سدى». (13)
و يقول ايضا:
«فوربك لنسألنهم اجمعين عما كانوا يعملون». (14)
ان الله سبحانه و تعالى لا يجبر العباد على فعل معين، ثم يعذبهم على ارتكاب ذلك الفعل، لان ذلك يتنافى مع العدالة الالهية، و لا يهمل الخالق عبده و يكله الى نفسه، لان ذلك يتنافى مع الحكمة الالهية، و لكن الله يحمل الانسان مسؤولية التكليف، فيجازي العبد على ما عمل... كما اشار الى ذلك الرضا(ع)، ففي كتاب نثر الدرر سأل الفضل بن سهل الرضا في مجلس المأمون، فقال:
«يا ابا الحسن الناس مجبرون؟ فقال: الله أعدل من ان يجبر ثم يعذب، قال: فمطلقون؟ قال : الله احكم من ان يهمل عبده و يكله الى نفسه.» (15)
و عن ابراهيم بن العباس: سمعت الرضا(ع) و قد سئله رجل:
«أ يكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ فقال: هو اعدل من ذلك، قال: أفيقدرون على كل ما أرادوه، قال: هم اعجز من ذلك.» (16)
3ـ الجزاء
تنطلق فكرة الجزاء من قاعدة ان الانسان يجب ان يثاب على عمل الخير، و يعاقب على عمل الشر. و طالما ان الباري عز و جل ألزمنا بالطاعة و العمل الصالح، فقد ألزم نفسه بالجزاء . و الى ذلك يشير كلام الرضا(ع):
«دخل رجل من أهل العراق على امير المؤمنين على(ع) فقال: أخبرنا عن خروجنا الى أهل الشام أبقضاء من الله و قدره؟ فقال له أمير المؤمنين(ع): أجل يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة (17) و لا هبطتم بطن واد الا بقضاء من الله و قدره، فقال: الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا امير المؤمنين (18) فقال: مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما و قدرا لازما؟ لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب و الامر و النهي و الزجر، و لسقط معنى الوعد و الوعيد، و لم يكن على المسي‏ء لائمة و لا للمحسن محمدة، و لكان المحسن أولى باللائمة من المذنب، و المذنب أولى بالاحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الاوثان و خصماء الرحمان، و قدرية هذه الامة و مجوسها، يا شيخ ان الله عز و جل كلف تخييرا و نهى تحذيرا، و أعطى على القليل كثيرا، و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكرها، و لم يخلق السموات و الارض و ما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.» (19)
و ورد عن ابراهيم بن العباس «انه كان اذا خلا و نصبت الموائد أجلس على مائدته مماليكه و مواليه حتى البواب و السائس». (20) و عن ياسر الخادم: «كان الرضا(ع) اذا خلا جمع حشمه كلهم عنده الصغير و الكبير فيحدثهم و يأنس بهم و يؤنس.» وروى الكليني في الكافي بسنده عن رجل من اهل بلخ قال:
«كنت مع الرضا(ع) فى سفره الى خراسان فدعا يوما بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان و غيرهم فقال له بعض اصحابه جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال(ع): ان الرب تبارك و تعالى واحد و الام واحدة و الاب واحد (21) و الجزاء بالاعمال».
و عن ابائه عن على عليهم السلام قال:
«الاعمال على ثلاثة أحوال: فرائض، و فضائل، و معاصي، فأما الفرائض فبأمر الله و برضى الله، و بفضل الله، و بقضاء الله، و تقديره و مشيته و علمه، و أما الفضائل فليست بأمر الله و لكن برضى الله و بقضاء الله و بقدر الله و بمشية الله و بعلم الله، و اما المعاصى فليست بأمر الله و لكن لقدر الله و بعلمه ثم يعاقب عليها.» (22)
و يؤكد القرآن الكريم ان الحياة الدنيا لا تخلو من جزاء نسبي. يقول تعالى:
«انما جزء الذين يحاربون الله و رسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم و ارجلهم من خلاف، او ينفوا من الارض» (23)
و يقول:
«افنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون». (24)
و يقول ايضا:
«أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الارض، ام نجعل المتقين كالفجار» . (25)
و اما الجزاء الالهي في الآخرة، فهو وان كان ماديا جسديا، الا ان العذاب الاخلاقي في النار اكثر ايلاما و اشد وجعا، فالهدف ليس النار بحد ذاتها، بقدر ما هو الخزي و الفضيحة، يقول:
«ربنا إنك من تدخل النار فقد اخزيته و ما للظالمين من انصار». (26)
و كذلك حياة النعيم بالنسبة للمؤمنين، فان رضى الله سبحانه و القرب منه، هو افضل من حياة الفردوس المادية، فالنعيم الحقيقي هو القرب منه و مرضاته تعالى. (27)
«و رضوان من الله اكبر ذلك هو الفوز العظيم». (28)
4ـ النية و الدوافع
ان الله لا يرتضي من الانسان عملا خارجيا، ما لم يكن هناك عمل باطني فيه ارادة و عزم لتحقيق العمل الخارجي و يعتبر القلب مركز الايمان و مصدر النية (29) ، و قد ابرز القرآن الكريم و الرسول(ص) و ائمة اهل البيت(ع) عمل القلب باعتباره عملا حسنا نابعا من اعماق النفس. يقول تعالى:
«اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى» (30) .
و يقول:
من خشي الرحمن بالغيب و جاء بقلب منيب» (31) .
و يقول ايضا:
«يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم». (32)
و ورد عن الرضا(ع) انه قال:
«قال رسول الله(ص) الايمان اقرار باللسان و عمل بالاركان و يقين بالقلب.» (33)
و عنه عليه السلام قال:
«خرج ابو حنيفة ذات يوم من عند الصادق، فاستقبله موسى عليهما السلام، فقال: يا غلام ممن المعصية؟ قال: لا تخلوا من ثلث، اما ان تكون من الله عز و جل و ليست منه، فلا ينبغي للكريم أن يعذب عبده بما لا يكتسبه، و اما ان تكون من الله عز و جل و من العبد فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، و اما ان تكون من العبد و هي منه فان عاقبه الله فبذنبه، و ان عفا عنه فبكرمه و جوده.» (34)
ان خضوع النفس و خشوعها لامر الله يجب ان يكون نابعا من الاخلاص و التوجه الكامل له،و لا يتم هذا التوجه و الاخلاص الا بالسيطرة على هوى النفس و حب الذات اولا، و التحرر من التأثير الخارجي و خشية الناس ثانيا، و لا يمكن ان يتوجه الانسان نحو الله ما لم تتوفر نية صادقة تدفع المؤمن نحو تحقيق ذلك.
5ـ الجهد
الجهد هو استثمار طاقة الانسان في تحقيق العمل الاخلاقي، فالمعصية لا يمكن تجنبها ما لم يبذل جهد خاص داخل النفس الانسانية لردعها عن ذلك الفعل و لا يمكن اداء التكاليف الشرعية ما لم يبذل جهد خارجي خاص بذلك. و قد زود الله الانسان بملكات قادرة على اعانته لتحقيق الخير، و صاغ للانسان نفسه و استودعها فكرتي الخير و الشر (35) ، فلا يمكن للايمان ان يتحقق ما لم يزدوج الفكر بالعمل، و القول بالفعل، كما يشير الى ذلك قول الرضا(ع) منسوبا الى رسول الله(ص):
«الايمان قول وعمل.» (36)
و قوله(ع):
«لا تدعوا العمل الصالح و الاجتهاد في العبادة اتكالا على حب آل محمد(ص)، لا تدعو حب آل محمد(ص) و التسليم لأمرهم اتكالا على العبادة فإنه لا يقبل احدهما دون الآخر.» (37)
وقوله(ع):
«حلفت بالعتق و لا أحلف بالعتق الا اعتقت رقبة، و أعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنه خير من هذا، و اومأ الى عبد اسود من غلمانه، بقرابتي من رسول الله(ص) إلا ان يكون لي عمل صالح فاكون افضل به منه.» (38)
و حاصل المعنى انه حلف بالعتق إن كان يعتقد ان فضله على عبده الاسود بمحض قرابة الرسول (ص)، بدون انضمام الاعتقادات الحسنة و الاعمال الصالحة، و ذلك لا ينافي كونها مع تلك الامور سببا لأعلى درجات الشرف، (39) يقول تعالى:
«و لكل درجات مما عملوا» (40)
و يقول:
«و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة فى الارض و لا في السماء» (41)
و يقول ايضا:
«فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره». (42)
الهوامش:
1)التفسير الموضوعي للقرآن، الاخلاق القرآنية، تحت الطبع.
2)كشف الغمة في معرفة الائمة، ج 3، ص .79
3)بحار الانوار، ج 78، ص .344
4)كشف الغمة في معرفة الائمة، ج 3، ص .78
5)الشيخ المفيد في المقنعة، و نقلها السيد محسن الأمين، في مفتاح الجنات، دار القاموس الحديث ـبيروت، ط2، ج 2، ص .200
6)القيامة/14ـ .15
7)الشمس / 8ـ .7
8)النازعات/40ـ .41
9)دستور الاخلاق في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، ص 140، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1973م .
10)التفسير الموضوعي للقرآن، الاخلاق القرآنية، تحت الطبع.
11)الاحزاب/ .72
12)الصافات/ .24
13)القيامة/ .36
14)الحجر/92ـ .93
15)في رحاب ائمة اهل البيت(ع)، السيد محسن الامين، ج 4، ص .108
16)كشف الغمة في معرفة الائمة، ج 3، ص .78
17)التلعة: ما علا من الارض.
18)عند الله أحتسب عنائي، اى لما لم نكن مستحقين للأجر لكوننا مجبورين فأحتسب اجر مشقتي عند الله لعله ـ يثيبني بلطفه و يحتمل ان يكون استفهاما على سبيل الانكار ـ هذا ما ذكره المجلسي في البحار، و نقله صاحب كشف الغمة، ج 3، ص .77
19)المصدر السابق، ص .76
20)في رحاب اهل البيت(ع)، السيد محسن الامين، ج 4، ص .108
21)يقصد بالام واحدة و الاب واحد، بحواء و آدم (عليهما السلام).
22)كشف الغمة، ج 3، ص .78
23)المائدة/ .33
24)القلم/35ـ .36
25)ص / .28
26)آل عمران/ .192
27)التفسير الموضوعي للقرآن، الاخلاق القرآنية، تحت الطبع.
28)التوبة/ .72
29)المصدر السابق.
30)الحجرات/ .3
31)ق/ .33
32)الشعراء/ .89
33)كشف الغمة، ج 3، ص .58
34)المصدر السابق، ص .84
35)التفسير الموضوعي للقرآن، الاخلاق القرآنية، تحت الطبع.
36)كشف الغمة،ج 3، ص .81
37)بحار الانوار، ج 78، ص .348
38)بحار الانوار، ج 49، ص .95
39)المصدر السابق.
40)الاحقاف/ .19
41)يونس/ .61
42)الزلزلة/7ـ .8
الدكتور السيد زهير الاعرجى
عناصر الاخلاق عند الامام الرضا(ع) على ضوء القرآن، صفحه 245

 

المصدر: www.sibtayn.com/ar

 

logo test

اتصل بنا