البناء الروحي والايماني

flower 12

    

لقد تعرّض الواقع الإيماني والروحي في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) إلى الخواء والذبول وبروز الأنانية وفصل الإيمان عن الأنشطة الحياتية الاُخرى وإعطائه صورة مشوّهة، وقد جاء ذلك بسبب عبث التيارات الفكرية التي استندت الى دعم السلاطين والتي كانت تؤمن هي الاُخرى أيضاً بلزوم طاعة الحاكم الأموي والعباسي ; تبريراً لدعمها للخط الحاكم .
من هنا بذل الإمام نشاطا واسعاً لاستعادة الايمان وبناء الذات وسموّها وفق الخط القرآني وترشيح قواعد إيمانية رصينة ، والانطلاق بالايمان إلى آفاق أرحب وأوسع بدل التقوقع والنظرة الآحادية المجزّئة للدّين; لأن الإيمان بهذا المعنى يمنح المؤمن القوّة في اقتحام الميادين الصعبة وتحمّل المسؤوليات ويمدّه بالنشاط والحيوية في مواصلة العمل والجهاد .
ونقتصر فيما يلي على بعض الأنشطة التي رسّخ الإمام عن طريقها الإيمان في نفوس أصحابه وخاصّته.
1ـ حذّر الإمام من تكوين علاقات إيمانية مع من كانوا يسمون بالعلماء ـ الذين انتشروا في زمانه ـومنع من الاقتداء بهم لأنّ ما يتحقق من خلال التعاطف معهم والمحبة لهم من دون معرفة لواقعهم النفسي والأخلاقي يكفى لبناء صرح إيماني خاطئ ومنحرف; فإنّ العلم الذي يتمتع به هؤلاء انّما يكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا.
والإمام (عليه السلام) يشير إلى أن هذا النوع من العلاقة ينتهي إلى فساد العلاقة مع الله والابتعاد عنه سبحانه ، قال (عليه السلام) : «أوحى الله إلى داود (عليه السلام): لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبّتي ; فإنّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين ، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم» [1]
2 ـ ومن الاُمور التي صحّحها الإمام (عليه السلام) ونبّه عليها أصحابه هو مفهوم الإيمان ومعناه ، فحاول أن يبلور صورته الصحيحة ويكشف عنه الإبهام في نفوس أصحابه، وذلك عن طريق تشخيص صفات المؤمن فإن المؤمن هو ذلك الإنسان الذي يعكس المفهوم الإلهي بصورته الشاملة للحياة وليس هو ذلك النموذج المستسلم في حياته الفاقد لإرادته والذي يطمع فيه أهل السياسة لاستثمار طاقاته باتّجاه مصالحهم.
ولهذا نرى الإمام (عليه السلام) يشير إلى مسألة مهمّة تستبطن بعداً اجتماعياً وسياسيّاً ينبغي للمؤمن أن يعيها ويتحرّك بموجبها . حين قال (عليه السلام) : «إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه ، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلا ، أما تسمع الله تعالى يقول: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) [2]
فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلا».
ثم قال (عليه السلام) : « المؤمن أعز من الجبل ، والجبل يستقل منه بالمعاول ، والمؤمن لا يستقلّ من دينه بشيء » [3]
3 ـ كما بيّن الإمام (عليه السلام) أن القلب الخالي من مخافة الله ـ التي هي معيار الكمال والقوّة لقلب المؤمن ـ ليس بشيء فالقلب المملوء خوفاً من الله الكبير المتعال تتصاغر عنده سائر القوى مثل قوّة السلطان وقوّة المال وكل قوّة بشرية، والقلب الذي لا يستشعر الرقابة الالهية ويتغافل عن هيمنتها يكون ضعيفاً وساقطاً مهما بدا قوياً وعظيماً . إنّ هذا النمط من العلاقة السلبية مع الله يؤدي إلى اهتزاز الذات وقلقها وهزيمتها أمام التحديات الصادرة من تلك القوى المخلوقة الضعيفة أمام قدرة الله وعظمته وجبروته  
عن الهيثم بن واقد قال سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء» [4]
4 ـ ومن جملة تنبيهاته للشيعة أنّه قد حذر من الثرثرة في الكلام وأمرهم بضبط اللسان وأشار إلى خطورة الكلام وما يترتب عليه من آثار سيئة وآثام تضرّ بالايمان . كما حذّر أيضاً من الاستجابة لهوى النفس قائلا : « إن كان الشؤم في شيء فهو في اللسان ، فاخزنوا السنتكم كما تخزنون أموالكم واحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس أقتل للرجال من اتّباع الهوى وحصائد السنتهم » [5]
5 ـ كما لفت الإمام أنظار شيعته الى أن لا يتجاهل أحدهم الإشاعات التي يطلقها الخصوم ضد أصحابه فقد تكون مصيبة وصحيحة ولتكن مدّعاة لمراجعة النفس قال (عليه السلام) : «من لم يبال ما قال وما قيل فيه ، فهو شرك الشيطان ، ومن لم يبال أن يراه الناس مسيئاً فهو شرك الشيطان » [6]
مظاهر عمق الإيمان
لقد أعطى الإمام (عليه السلام) للشيعة علائم ومؤشرات واضحة تكشف عن عمق التدين وعن مدى صحته وسلامته . فإن الإيمان أمر باطني ولكنه له آثاره ومظاهره التي تكشف عنه . ولا معنى لإيمان بلا عطاء ولا ثبات ولا قدرة على المواجهة .
فالمؤمن ذلك النموذج الذي يبرز تديّنه عندما يوضع على المحك ويعرَّض للمصاعب ولا ينثني أمام المغريات ولا يستجيب لمخطّطات أهل الباطل .
وقد هاجم الإمام (عليه السلام) تلك الشريحة التى تنتسب إلى التشيّع وهي تمارس أخلاقيات مرفوضة في نظر الإمام وأوضح بأنّ الإيمان كُلٌّ لا يتجزّأ بصفة دون اُخرى مشيراً إلى أهمّية الاقتداء بالائمة(عليهم السلام) قائلا : «إنّما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء ، وصبر في دولة الباطل على الأذى ، أولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقاً وهم المؤمنون ، إنّ ابغضكم إليَّ المترأسون [7]
المشاؤون بالنمائم ، الحسدة لإخوانهم ليسوا منّي ولا أنا منهم إنّما أوليائي الذّين سلّموا لأمرنا واتبعوا آثارنا واقتدوا بنا في كل اُمورنا » [8]
كما نجد الإمام (عليه السلام) يعطي ضابطة سلوكية تكشف بدورها عن مستوى التدين وعمقه في النفس قائلا : « إذا رأيتم العبد يتفقّد الذنوب من الناس ، ناسياً لذنبه فاعلموا أنه قد مكر به » [9]

 

  المصدر: سایت السبطین

_________________________________________
[1]
الكافي : 1 / 46، وعلل الشرائع : 394 ح13، وبحار الأنوار : 2 / 107 .
[2]
المنافقون (63) : 8 .
[3]
تهذيب الأحكام : 6 / 179 .
[4]
الكافي : 2 / 68 .
[5]
وسائل الشيعة : 8 / 534 .
[6]
وسائل الشيعة : 11 / 273 ح10، عن من لا يحضره الفقيه : 4 / 417 .
[7]
أي طلاّب الرئاسة .
[8]
تحف العقول : 307 ، وعنه في بحار الأنوار : 78 / 286 .
[9]
تحف العقول : 364 ، وبحار الأنوار : 78 / 246 .

logo test

اتصل بنا