العناصر الأربعة

flower 12

    

لئن كنّا نفتقر إلى مصادر ومعلومات وافية عن دراسة الطب ومستواه في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام). فإنَّ الوضع بالنسبة إلى الفيزياء والهندسة يختلف عن ذلك.
كانت الفيزياء من العلوم التي تُدرس في مدرسة الإمام الباقر (ع)، ولدينا معلومات وافية عن الأبواب التي كانت تُدرس في الفيزياء والهندسة في هذه المدرسة.
أما الفيزياء والأبواب العلمية التي كانت تدرس في مدرسة الإمام الباقر(عليه السلام)، فكانت تدور حول فيزياء أرسطو، والفيزياء عند أرسطو تضم علوماً شتى كالميانيكا، وعلم الحيوان وعلم النبات والجيولوجيا، وإن كان العلماء في يومنا هذا لا يعدوّن علم الحيوان وعلم النبات من علوم الفيزياء.
ولكن، إذا كان مدلول الفيزياء يعني علم الأشياء، فقد مكان أرسطو محقاً في اعتبار هذه العلوم جميعاً جزءاً من الفيزياء.
وأغلب الظن أن هذا العلم وصل إلى شبه الجزيرة العربية وبنفس الأسلوب الذي وصلت به علوم الهندسة والجغرافيا، أي عن طريق أقباط مصر، وهناك من يعتقد بأن الطب انتقل من مدرسة الاسكندرية إلى مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام)، على أنه ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أنه بحلول هذا الوقت لم يعد باقياً أي أثر من آثار مدرسة الاسكندرية أو الحركة العلمية بهذه المدينة أو مكتبتها العامرة الشهيرة، وقُصارى ما بقي في متناول الناس هو بعض الكتب المستنسخة من مكتبة الاسكندرية، أو بعض ما بقي على قيد الحياة من تلاميذ هذه المدرسة، ولا سيما دعاة الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، وقد انتهى إلينا فعلاً ما سجلوه عن هذه الفلسفة ونقلوه جيلاً بعد جيل.
تعلم جعفر الصادق (عليه السلام) الفيزياء والجغرافيا في مدرسة والده الإمام الباقر (عليه السلام). وقد أوردنا في ما تقدم نقده لنظرية بطليموس بشأن دوران الشمس حول الأرض، وملاحظاته عليها، وخروجه بنظرية عليمة أخرى قلبت النظرية السابقة.
وكان مما سمعه من والده الإمام الباقر (عليه السلام) في درس الفيزياء رأي ارسطو في أصل الطون، وأنه يتألف من عناصر أربعة هي: التراب، والماء، والهواء، والنار(1) فأبدى جعفر الصادق (عليه السلام) استغرابه لأن أرسطو لم ينتبه إلى أن العناصر الأربعة ومنها التراب ليست عناصر بسيطة غير قابلة للتجزئة، وقال إن التراب مركب من أجزاء وعناصر كثيرة، منها الحديد وهو بدوره مركب من أجزاء كل جزء منها يعتبر عنصراً مستقلاً.
وكان الاعتقاد بوجود عناصر أربعة سائداً منذ عصر ارسطو وإلى أيام الإمام الباقر (عليه السلام). أي ما يقرب من ألف سنة، والناس تذهب إلى ما ذهب إليه فلاسفة اليونان حول أصل الكون، وكانت العناصر الأ{بعة تعتبر ركناً هاماً في علم الأشياء، ولم يشكك أحد في صحة هذه النظرية طوال هذه الفترة الممتدة.
ولكن، ظهر بعد ألف سنة من قال بعدم صحة هذه النظرية، وبأن التراب إنما يتألف من عناصر متباينة وليس قوامه عنصراً بسيطاً. أما صاحب هذا الرأي فهو أصغر الطلبة سنّاً وأعمقهم تفكيراً في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) ألا وهو جعفر الصادق، بل ان هذا الدارس الشاب ذهب إلى أبعد من هذا عندما أصبح مدرّساً وزعيماً لمدرسة أبيه الإمام الباقر (عليه السلام)، ففنَّد رأياً آخر لأرسطو بخصوص الهواء، وقال أن الهواء بدوره ليس عنصراً بسيطاً، بل هو مركب من أجزاء وعناصر شتى.
والواقع أن أبرز العلماء والفلاسفة منذ أيام أرسطو وإلى القرن الثامن عشر الميلادي الذي يعدّ قرن التقدّم والازدهار في ميادين العلوم، لم يكتشفوا أن الهواء ليس من العناصر البسيطة، ولم يقل أحد بهذا الـــرأي حتى جاء العــــالم الفرنسي لافوازيـــيه(2) فحلل الهواء، وساتخرج منه الأوكسجين، وبرهن على أثره الحيوي الفعّال في التنفس وفي حياة الإنسان وفي عمليات الاحتراق.
فأقبل جمهور العلماء والباحثين على رأي لافوازييه باهتمام، وسلّموا بأن الهواء مركب من عناصر مختلفة، ولم يمض وقت طويل حتى فوجئ المجتمع العلمي في يوم من أيام سنة 1794 بنبأ إعدام لافوازييه بالمقصلة في الثورة الفرنسية، وهكذا انتهت حياة أبي الكيمياء الحديثة، ولو قد مُدّ في عُمره، لحقق بلا ريب انجازات أخرى، ولأجرى تجارب علمية جديدة لها أهميتها أيضاً.
فلا بد إذن من الاعتراف بأن جعفراً الصادق، بذهابه إلى أن الهواء مركّب من عناصر مختلفة، قد سبق عصر العلم والاكتشافات الحديثة بألف سنة.
وعند الشيعة أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان يعلم المجهول ويكشف أسراره بقوة الإمامة، وهو قوة إلهية لدنية لا تتوافر إلا للإمام المعصوم وحده، ولكننا نرى أن جعفراً الصادق (عليه السلام) قد توصل إلى هــــذا الكشـــف بنقاء تفكـــيره وذكائه(3). ولو كان عالماً بالغيب، لكشف قانون تحويل المادة إلى طاقة، وهو ما اهتدى إليه آينشتين، وغيره من القوانين والكشوف العلمية التي تحققت بعد هذه الفترة. ولكن الصادق (عليه السلام) لم يُشر إلى أنه بقوى خفيّة، وإنما هو قد اجتهد في إثبات حقيقة علمية عز على علماء القرن الثامن عشر الميلادي فهمها، فقد ذهب هؤلاء العلماء ـ بعد اكتشاف لافوازييه ـ إلى أن الأوكسجين هو وحده المادة الحيوية في الهواء، وأن الأجزاء الأخرى في الهواء منعدمة النفع أو ضارة، في حين أن جعفراً الصادق قال إن الهواء مركب من عناصر، وأن عناصره ضرورية للتنفس ولبقاء الحياة.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، صحح العلماء رأيهم في الأوكسجين، بعد ما تبينّوا أن هذا العنصر الهام اللازم لتنقية الدم واستمرار الحياة عند الإنسان ليس على هذه الدرجة من الفائدة والنفع للكائنات الأخرى، إذ تبين أن هناك كائنات حيّة لا تقوى على ستنشاق الأوكسجين الخالص فترة طويلة، لأن خلايا أجهزتها التنفسية تتأكسد وتتآكل بتفاعلها مع الأوكسجين، أي أن هذه الخلايا تحترق بفعل الأوكسجين الخالص.
والأوكسجين في حدّ ذاته لا يحرق، ولكنه يساعد على الاحتراق، فإذا تعرّض له جسم أو مادة، وكان هذا الجسم أو المادة مما يقبل الاحتراق، كانت النتيجة احتراقاً فعلاً، وإذا تنفّست الخلايا الموجودة داخل رئة الانسان أو الحيوان الاوكسجين الخالص فترة طويلة، احترقت هذه الخلايا، ومات الانسان أو الحيوان، ولهذا يوجد الأوكسجين في الهواء مختلطاً بغازات اخرى كفيلة بمنع أثره السيئ والضار عن حياة الانسان والحيوان. وبالوصول إلى هذه الحقيقة العلمية صحّ ما ذهب إليه جعفر الصادق (عليه السلام) من أن الهواء مفيد للانسان بمجموع أجزائه بما فيها ذلك أجزاؤه من الغازات الاخرى التي يوجد منها مقدار ضئيل فيه.
ومن قبيل المثال، نذكر أن لغاز (أوزون) L,ozone خواصاً كيميائية مشابهة لخواص الأوكسجين. وقوام جزيء(4) هذا الغاز ثلاث من ذرات الأوكسجين.
وإذا كان الظاهر أن غاز الأوزون لا يقوم بدور هام في التنفس، فواقع الأمر أن له تأثيراً فعّالاً في تثبيت الأوكسجين عند دخوله الدورة الدموية، أي انه يحافظ على الاوكسجين في الدم ولا يدعه يذهب هباء، وهذا يؤيد ما ذهب إليه جعفر الصادق (عليه السلام) من أن الهواء ـ بكل أجزائه ـ ضروري للحياة، وهي حقيقة أُميط عنها اللثام منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ومن خواص الجسيمات الموجودة في الهواء، انها تمنع الأوكسجين من أن يؤثر تأثيراً سلبياً في الكائنات، ومن أن يحرق الرئتين والجهاز التنفسي، وقد برهنت التجارب العلمية على أن غاز الأوكسجين هو أثقل الغازات والجسيمات الموجودة في الهواء، ولولا أن الأوكسجين مختلط بالغازات والجسيمات الأخرى في الهواء، لثقل وزنه ورسب إلى الطبقة السفلى، وهو أمر لو حدث لجعل الأوكسجين يملأ سطح الأرض إلى ارتفاع معين، ولاتخذت الغازات الأخرى مكانها فوق الأوكسجين، كل غاز منها بحسب وزنه وثقله، ولأدى هذا الخلل إلى الإضرار بالجهاز التنفسي للإنسان والحيوان والنبات أيضاً، لأن النبات يحتاج بدوره إلى الأوكسجين ومعه الكربون، ولو حدث هذا الخلل لباتت حياة الإنسان والحيوان والنبات مهددة بأشد المخاطر، غير أن وجود غازات أخرى مختلطة بالأوكسجين في الهواء، يحول دون انفصال الأوكسجين ورسوبه، ويمد بالتالي في حياة الإنسان والحيوان والنبات.
وقد كان جعفر الصادق (عليه السلام) أول من فند القول بأن هناك عناصر أربعة، فقوض هذه النظرية من أساسها بعدما عاشت قرابة ألف سنة، وكان جعفر آنذاك في مستهل حياته العلمية الحافلة.
وربما تبادر إلى أذهاننا اليوم أن نظرية جعفر الصادق (عليه السلام) هي من البديهيات اليسيرة، وذلك بعد أن تم معرفة 102 من العناصر والمواد الموجودة حولنا، غير أننا إذا رجعنا القهقرى إلى القرن السابع الميلادي، لعرفنا أن نظرية جعفر الصادق (عليه السلام) كانت نظرية ثورية بجميع المقاييس، وإن لم تفطن العقول في وقته إلى حقيقة كون الهواء مركباً من عناصر متمازجة ومركبة. ولا بد هنا من أن نكرر أن أوروبا كانت في هذا العصر وإلى القرن الثامن عشر الميلادي عاجزة عن التذرع برحابة الصدر لقبول هذه النظرية أو غيرها من النظريات التي طلع بها جعفر الصادق (عليه السلام)، وسنقوم بإبراز هذه النظريات في فصول أخرى من هذا البحث. صحيح أن العواصم العلمية في الشرق، كالمدينة المنورة مثلاً، كانت تتدارس نظريات جعفر الصادق (عليه السلام) وتنشرها دون أن يرمى عالم بالكفر، ولكن الصحيح أيضاً أن أوروبا المسيحية كانت في ذلك الوقت تحكم بالكفر والزندقة على كل من يسوق رأياً يخالف الرأي الديني التقليدي بشأن الكون.

 

المصدر:سایت السبطین

__________________________________________________
1 - القول بالعناصر الأربعة، أو جوهر الكون يرجع تاريخه إلى المذاهب الفلسفية الأولي في اليونان، أي مع ظهور المذهب الأيوني.
وقد حاول الأيونيون أن يردوا الأجسام المختلفة في الكون إلى أصل جوهري أو عنصر واحد، فزعم أولهم طاليس المالطي (624 ـ 545ق.م) الذي تعلم الهندسة في مصر، والفلك في بابل، واشترك مع قومه اليونانيين في قتال الفرس، زعم أن أصل الكون هو المادة، وأكد خلفه اناكسيمندر أن هذا العنصر غير معين ولا محدود، وزعم اناكسيمانس بعدهما أنه الهواء، وظن هراقليطس أنه النار.
وأجمعوا على أنه لا ينشأ شيء من العدم، ولا ينعدم شيء موجود، وأن كل ما نراه حولنا كان موجوداً منذ الأزل ـ بمادته لا بصورته ـ وسيظل موجوداً إلى الأبد (بمادته أيضاً وإن تغيرت صورته).
بهذا الرأي عدهم متفلسفو الإسلام في (الدهرين) الذين جحدوا الصانع المدبر للكون. كما قال الأيونيون أن العناصر الأولى يستحيل بعضها إلى بعض، فيصبح الماء تراباً والهواء ناراً الخ (ومن الملاحظ أن ما سموه (عناصر) إنما هو مركبات).
ثمَّ يأتي بعد الأيونيون دور الفلاسفة الطبيعيين المحدثين، ومن هذه الطبقة أنباذوقلس الصقلي (483 ـ 424 ق.م) وكان مولده بصقلية ثمَّ انتقل إلى جنوبي اليونان. وقد قال: إن العالم مركب من الاسطقسّات (العناصر) الأربعة، وهي الماء والهواء والتراب والنار، ولهذه العناصر صفات خاصة ثابتة لا تتبدل ولا تندثر، ولا يستحيل بعضها إلى بعض. ومن هذه العناصر الأربعة تتكون الأجسام كلها بالتحليل أو بالتركيب. ولمزيد من البحث يراجع كتاب: (تاريخ الفكر العربي) للدكتور عمر فروخ، ص 59، 78، 79. (المترجم).
2 - أنطون لافوازييه Lavoisier 1743 ـ 1794م كيميائي فرنسي يعتبر من مؤسسي الكيمياء الحديثة، وله كشوفات عدة منها تركيب الهواء، ودور الأوكسجين في الاحتراق، وقائمة الأجسام الكيميائية، وقد مات مقتولاً في الثورة الفرنسية الكبرى. (المترجم).
3 - هذا الكلام ـ بالطبع ـ منقول عن مستشرق فرنسي يأخذ في دراسته بالظواهر ولا يدين بالإسلام أو النبوة أو الإمامة. (المترجم).
4 - الجزيء (Le Mollecule) هو أصغر وحدات العنصر أو المرّكب ويتألف عادة من ذرة أو ذرتين، لكل منهما نفس خواص المادة، ولكن الجزيء يفقد بعضاً من خواص المادة متى قسّم إلى اقسام أصغر. وتتجلّى في الجزيء الحالات الثلاث للمادة، وهي الحالة الجامدة، والحالة السائلة والحالة الغازية، فإذا اقتربت الجزيئات بعضها من بعض، تكونت الحالة الجامدة، وإذا ابتعدت بفعل الحرارة، تكونت الحالة السائلة، فإن ازداد ابتعادها تكونت الحالة الغازية أو البخار. (المترجم).

logo test

اتصل بنا