العلوم التجريبية في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام)

flower 12

    

مر بنا ان الإمام الباقر (عليه السلام) كان يُعني في مدرسته بتدريس علوم اخرى عدا القرآن والحديث، كالتاريخ والجغرافيا والطب. أما في ما يتعلق بالطب، فهناك روايتان مختلفتان، تذهب الاولى إلى تأكيد تدريسه له، في حين أن الثانية تنسب تدريسه إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).
وأياً كان الأمر، فليس ثمة شك في أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان ملماً بالطب، وكان يلقي دروساً فيه، أفاد منها كثيرمن الأطباء والباحثين والمرضى في القرنين الثالث والرابع.
ومن نظرياته التي انتفع بها الأطباء في عصره وبعد وفاته، رأيه في امكان تنشيط الدورة الدموية عند حدوث سكتة مفاجئة أو توقف مؤقت،
حتى ولو ظهرت على المريض إمارات الموت أو علامات شبيهة بعلامات الموتى. وقد يُعيد الحياة إلى مريض بقطع وريد بين أصابع يده اليسرى إسالة للدم منه(1).
وقد أثبت صحة هذه النظرية واقعة تاريخية حدثت في أيام هارون الرشيد، الخليفة العباسي، فقد ذكر المؤرخون أن ابراهيم بن صالح (ابن عم هارون الرشيد) مرض، فعاده جبرائيل بن يختيشوع الطبيب(2)، ثمَّ دخل على هارون الرشيد وهو جالس إلى المائدة. فسأله هارون الرشيد عن ابراهيم بن صالح، فأجاب بختيشوع أنه لا أمل في حياته، وهو يعيش لحظاته الأخيرة، وقد تركته والطبيب الهندي ابن بهلة يدخل عليه(3).
فقال هارون الرشيد: نعم، لقد أرسلت في طلبك مرتين ولم أجدك، فأرسلت في طلب ابن بهلة الطبيب ليعود ابراهيم بن صالح، وكان ابن بهله الهندي طبيباً في بغداد أيضاً وهو ينافس بختيشوع ويحسده على مقامه عند الخليفة.
فأفزعه النبأ، وترك الطعام، وأمر برفع المائدة، وبعد ساعة، دخل ابن بهلة على الخليفة، وشاهد الحزن والقلق مرتسمين على وجهه.
فابتدره هارون الرشيد بالسؤال على ابن عمه، وهل هو يحتضر.
فرد عليه ابن بهلة قائلاً:لا، فقد فحصته، وأنا واثق من أنه سيبرأ من مرضه هذا.
فقال هارون الرشيد: أتكذّب ابن بختيشوع، وهو طبيب أباً عن جد؟
فقال ابن بهلة: يا أمير المؤمنين، إن مات ابن عمك الليلة، فلك كل ما أملك ونفسي. فسره هذا، وزال عنه الحزن، وأمر بالطعام من جديد، وطلب الشراب، وأفرغ كأسا بعد أخرى، وفي هذه الثناء، دخل عليه غلاماً ناعياً ابراهيم بن صالح قائلاً إنه مات لتوه، فأحزنه النبأ، وأغضبه أنه كان يتناول الشراب وقت وفاة ابن عمه، ولولا نشوة الخمر، لكان غضبه أشد، وأقبلت عليه الحاشية معزية مسرية.
وارتدى الخليفة السواد، وجاء إلى بيت ابن عمه ليشارك في تجهيزه ودفنه، وكان من جملة المجتمعين في البيت ابن بهلة الطبيب الذي كان ينظر إلى الميّت نظرة تفحص وتأمل وهو مسجى على منضدة الغسل. فوقع نظر الخليفة على هذا الطبيب، وناداه غاضباً، فأقبل الطبيب على أمير المؤمنين قائلاً: لا تغضب ولا تتعجل مؤاخذتي لأن ابن عمك سيعيش.
فقال الخليفة: إني أمقت الكذب وأبغض الكذابين، وهذه فرية غليظة منك.
فقال ابن بهلة: إن ابن عمك لم يمت ميتة كاملة، فما زالت به نسمة الحياة، ولسوف يعيش، ولكني أخشى إن هو نهض ورأى نفسه عارياً على المغتسل أو في الكفن أن يكون وقع الصدمة عليه قاتلاً، فلعلك تأمر بإزالة آثار الكافور عنه، وإعادته إلى ثيابه، ووضعه في سريره لأقوم بعلاجه.
فأمر هارون الرشيد بإنفاذ ما طلبه ابن بهلة، الذي تناول سكيناً حادة، وقطع عرقاً بين أصابع اليد اليسرى للمريض، فنزف دمه، وعندئذ رآه الجميع وهو يتحرك ببطء. ولم يلبث أن فتح عينيه، فرأى هارون الرشيد واقفاً عند رأسه، وشكره بصوت خفيض متخيلاً أن الخليفة جاء لعيادته.
سبق القول بأننا نفتقر إلى شواهد تؤكد أن الإمام الباقر (عليه السلام) كان يدرس الطب، ولكننا واثقون من أن جعفرا الصادق (عليه السلام) درس علوم الطب في مدرسته، وكانت له فيها آراء ونظريات لم يسبقه غليها أحد في الشرق، ولا يقصد بالشرق هنا شبه الجزيرة العربية، إذ هي لم تعرف مدارس الطب، اللهم إلا الذي عرف عن العرب في هذا الميدان قبل الاسلام، من أن بعضاً منهم درس الطب أو غيره من العلوم في جنديسابور بفارس ومنهم النضر بن الحارث الذي عاصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان له موقف في معارضة الدعوة الاسلامية.
فإن قيل أن جعفراً الصادق (عليه السلام) تعلم في مدرسة أبيه محمد الباقر (عليه السلام)، وأخذ الطب وسائر العلوم عن أبيه، فمن أين استقى الإمام الباقر (عليه السلام) هذه العلوم؟.
مر بنا أن الهندسة والجغرافيا انتقلا من مصر إلى المدية المنورة، على أيدي أقباط مصر، أما الطب فلم تكن له عند العرب مدرسة قبل الاسلام، في حين أن مصر وفارس عرفتا مدارس شهيرة للطب(4).
ولا يستبعد أن يكون هذا العلم قد انتقل بدوره من الفرس أو القبط، يؤكد ذلك أن في طب الصادق آراء ومسائل وردت في تاريخ الطب عند الفرس. فالطب القديم لم يكن حكراً لقوم دون آخرين،
وإنما كانت هناك شعوب كثيرة كالاغريق والقبط والفرس تعني بتطور أساليب العلاج والتطبيب بالعقاقير.
وكانت مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) في الطب أول مدرسة تؤسّس في الاسلام في شبه الجزيرة العربية، ولم تكن للعرب يومذاك عناية بالعلاج أو الوقاية، فمن اجتاز منهم أمراض الطفولة(5) قلّ أن يمرض طول حياته، نظراً لصلابة أجسامهم وقوة احتمالهم لقساوة البيئة في البادية، فإن مرض في كبره، تركوه عند الآلهة حتى يشفى أو يموت.
والقواعد العامة لعلم الطب التي كانت تتداول وتُدرَّس في مختلف المدارس هي قواعد متشابهة، غير أننا نرى في مدرسة جعفر الصادق ما لا نراه في مدرسةٍ قبلها، مما يدل على أنه هو المستنبط لهذه القواعد والواضع لهذه النظريات(6).

 

  المصدر:سایت السبطین

___________________________________________________
1 - قال أبو هفان قلت لإبن ماسويه (الطبيب): أن جعفراً بن محمد (عليه السلام) قال: الطبائع أربع: الدم وهو عبد وربما قتل العبد سيده، والريح وهو عدو إذا سددت له باباً أتاك من باب آخر، والبلغم وهو ملك يدارى، والمرة وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها، فقال ابن ماسويه: أعد عليّ، فوالله ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف.
مناقب آل ابي طالب: لأبي جعفر رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب المتوفي سنة588 هـ طبع قم ايران ج4 ص259.
وقد عين علم الـــطب الحديث بأن المـــرة أو الصفراء هي اليوريا (Uree) وأن البلغم أو السوداء البلغي: هو حامض اليوريا (Acide Urique)(المترجم).
2 - جبرائيل بن بختيشوع من اسرة أطباء أصلحهم من جنديسابور، خدموا الخلفاء العباسيين قرابة ثلاثة قرون، وجبرئيل بن بختيشوع من أشهرهم، وله كتاب نافعة في الطب والمنطق، وله رسائل وجهها إلى المأمون ذكرها ابن النديم في الفهرست توفي عام 214 هـ ـ828م. والاسم مركب من بُخت بضم الأول أي الخادم أو العبد، ويشوع أي المسيح، يعني عبد المسيح (المترجم).
3 - جاء ذكر هذا الطبيب أخباره في (تاريخ الشعوب الاسلامية) لبروكلمان، الذي ذكر أن الطبيب الهندي الذي استدعاه هارون الرشيد من الهند اسمه (منكه). (تاريخ الشعوب الاسلامية) ج1 ص 202.
4 - أشهر مدارس الطب في مصر مدرسة سائيس، أما فارس، فأشهر مدارسها مدرسة جنديسابور في القطاع الجنوبي لفارس، وقد كانت على درجة كبيرة من التقدم، واحتضنت عدداً كبيراً من طلبة الفرس وغيرهم. وكانت الدولة الساسانية معنية بالعلوم والفنون عناية كبيرة، ولكن العقبة التي اعترضت سبيلها هي وجود طبقي سائد يقصر الدراسة على ابناء طبقة معينة، ويمنع عنها من لا ينتمي إلى هذه الطبقة مهما كان ذكاؤه أو رغبته في العلم. وكانت هذه التفرقة الطبقية عاملاً من العوامل التي أدت إلى قيام الثورة المانوية في أيام الدولة الساسانية، إذ كان (ماني) يعارض النظام الطبقي السائد ويقول أن العلم للجميع وأن من الواجب على الدولة أن تهيئ أسباب العلم لجميع أبناء الوطن. ولكن (ماني) لم ينجح في نشر أفكاره الثورية، فقبض عليه وقتل، وأغمد السيف في أنصاره وأتباعه وفرَّ من نجا منهم إلى الصين، وهناك استوطنوا في إقليم طورفان (تركستان الصينية) وأبقوا على لغتهم الفارسية، ولقنوها لأبنائهم، وأسسوا مدرسة للطب، وكان اقليم طروفان من المراكز الهامة التي حافظت على ثقافة فارس وحضارتها وعلى الخط البهلوي. وهناك طائفة كبيرة من العلوم والكتب التي دونت بالخط الساساني. وتعطينا الآثار الباقية من حضارة طورفان التركية المغولية صورة جلية عن مستوى العلم والحضارة الفارسية فيها، وقد حرص الفرس في هذه المنطقة على الاحتفاظ عبر القرون باللغة والعادات والتقاليد الفارسية القديمة، وبقيت اللغة البهلوية على ما كانت عليه، ولم تبتل بالتغيير (هزوارش) الذي أدخله الكتبة الآراميون على الكتابة البهلوية، فقد كان من عادة الآراميين أن يكتبوا اللفظة بالآرامية وينطقوها بالبهلوية.
فمن ذلك مثلاً أن الفرس يقال لهم في الآرامية (كتل)، فكان الآراميون يكتبون لفظة (كتل) وينطقونها (أسب)، أي الفرس بالبهلوية. فاصبح نطق الألفاظ يختلف عما كان عليه، وجاء الجيل الجديد وهو لا يعرف أصول لغته، فهجرت البهلوية في عقر دارها، ولكنها على قيد الحياة في مناطق أخرى منها منطقة طورفان. (المترجم).
5 - كانت أمراض الأطفال المعدية واسعة الانتشار (المترجم) في شبه الجزيرة العربية يقول لورانس الانجليزي في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) إن عدد سكان شبه الجزيرة العربية في نهاية القرن الثامن عشر لم يختلف عنه في صدر الاسلام، بسبب تفشي الأوبئة وأمراض الأطفال.
6 - سبق القول بأن بعض قواعد الطب قد وردت في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) التي جمع بعضها في كتب الطب النبوي المتداولة والمشهورة.

logo test

اتصل بنا