مولد العبقري

flower 12

    

ولد الإمام محمد الباقر (عليه السلام) ـ في دار والده الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) بالمدينة المنورة يوم السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 83 هجرية ولدٌ سمّي جعفر، ولُقِّب بالصادق.
وكان ضعيف البنية عند الولادة بحيث ظنت القابلة ألاّ أمل في حياة هذا الطفل طويلاً، ولكن هذا لا يحول دون طلب الجائزة والعطيّة لأن المولود ذكر.
بادرت القابلة بالخروج من الحجرة لاخبار الأهل والأسرة بأن المولود ذكر، وهو بُشرى تُدخل في قلب الآباء في شبه الجزيرة العربية، وتشجعهم على تقديم العطايا ونصب الموائد، مهما كانت ظروفهم المادية.
ولم ينس العرب بعد مرور 82 سنة على ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية عاداتهم الجاهلية في إيثار الولد على البنت، ولم يكن أحد يخفي فرحته عند مولد الولد وتفضيله إياه.
فبحثت القابلة عن الولد، فلم تجده في الدار. ولكن قيل لها أن جد الطفل في الدار. فاستأذنت في الدخول على الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وزفت إليه البشرى. فسألها: هل أخبرت والده؟.
قال: لا، لأنه غائب عن البيت. فأدرك زين العابدين (عليه السلام) رغبة القابلة في أن يشاهد المولود، وقال: لكنني لا احب أن تخرجوه من الحجرة خوفاً من البرد، ولكن أخبريني، هل الطفل يتمتع بصحة الجسم وكماله؟
لم تجروء القابلة على إبلاغ الإمام بأن الطفل ضعيف جداً، ولكنها قال: أن له عيني زرقاوين جميلتين.
فقال الإمام زين العابدين: فعيناه إذن تشبهان عيني والدتي، رحمة الله عليها.
كانت للسيدة شهربانو بنت يزدجرد الثالث آخر ملوك الامبراطورية الساسانية، وهي والدة الإمام زين العابدين، عينان زرقاوان، وها هو جعفر الصادق يرث حسب قانون مندل(1) لون عينيه من جدّته.
وهناك رواية تقول أن كيهان بانو، وهي شقيقة شهر بانو بنت يزدجرد. وقعت في الأسر في فتح عاصمة الأكاسرة (المدائن)، حيث أتوا بها مع بقية الأسرى إلى المدينةن وكانت لها بدورها عينان زرقاوان. فإن صحت هذه الرواية، فالإمام الصادق قد ورث عينيه من أميرتين فارسيتين، لأن كيهان بانو بنت يزدجرد كانت جدة الإمام الصادق من ناحية الأم أيضاً.
وكان الإمام علي (عليه السلام) قد عطف على الأسرى من الأسرة المالكة، وزوج شهر بانو بنت يزدجرد لابنه الحسين (عليه السلام)، وكذلك زوج كيهان بانو لمحمد ابن أبي بكر (الخليفة الأول)، والذي كان يحبه ويرعاه كأحد أبنائه، وقد ولاّه في ما بعد مصر، ولكنه قُتل في أثناء ولايته بتواطوء من معاوية بن أبي سفيان.
وقد ولد لمحمد بن أبي بكر وكيهان بانو ولد سمي (القاسم)، وولدت للقاسم بنت سميت (أم فروة) تزوجها الغام محمد الباقر (عليه السلام)، فأنجبت له جعفراً الصادق (عليه السلام)، وبهذا ارتبط جعفر الصادق (عليه السلام) من ناحيتي الأب والأم بأميرتين فارسيتين كما سلف ذكره كما ارتبط بالخليفة أبي بكر من ناحيتين أيضاً.
وكانت العادة المرعيّة بين أهل المدينة المنورة الذين هاجروا إليها من مكة المكرمة جلب المرضعات من عرب البادية.
وعند مولد الصادق (عليه السلام)، كان قد مضى على بدء الهجرة النبوية 83 سنة، وقد نسي الناس من هم المهاجرون ومن هم الأنصار. ولكن المكيين لم ينسوا عادة تسليم الرضيع إلى المرضعة، وحاول بيت الإمام زين العابدين (عليه السلام) الاهتداء إلى مرضعة للمولود الجديد، لولا أن أم فروة (أمه) قبلت أن تقوم بنفسها بإرضاع الطفل ورعايته، لا سيما وهو ضعيف واهن، ولا يسع أمه أن تدعه تحت رحمة المرضعة، مهما أبدت نحوه من العطف والحنان.
وفي كتب الشيعة مجموعة من الروايات عن أيام رضاعة جعفر الصادق (عليه السلام) وطفولته، منها ما تواترت روايته منسوباً إلى الرواة المختلفين، ومنها ما ذكر دون إيراد سند. ومن جملة الأخبار التي روُيت دون سند أن جعفراً الصادق (عليه السلام) ولد مختوناً، ومكتمل الأسنان، أما أن يكون جعفر الصادق (عليه السلام) ولد مختوناً فهذا أمر جائز، وربما اثبته الطب. أما أن يكون مولوداً بكامل أسنانه، فهي رواية تحتاج إلى وقفة وتأمل، لأنها لا تتفق مع علم البيولوجيا، وتتعارض مع طبيعة الطفل والرضاعة. إذ ثبت أن الطفل يهجر ثدي أمه متى نبتت اسنانه، ناهيك عن الألم الذي تحدثه الأسنان للأم عند الرضاعة.
ومن هذه الروايات أن جعفراً الصادق (عليه السلام) ولد ذرب اللسان، وخرج إلى الدنيا يتكلم. وروي عن أبي هريرة انه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سيولد من ولدي من اسمه جعفر ولقبه الصادق، ينطق لسانه بالحديث من يوم ولادته.
ولكن هناك أحاديث منسوبة إلى أبي هريرة ولم تثبت صحتها، وإن كان أبو هريرة عرف بالصلاح، ولم يكن يختلق الأحاديث، كما انه صحب الرسول (صلى الله عليه وآله) فترة طويلة، وكان يحبه حباً عظيماً، ويقضي ساعات طويلة من وقته في حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله). لذلك كان واضعوا الحديث ومختلقوه ينسبون كل حديث موضوع إلى أبي هريرة ليصادف من الناس قبولاً. على أن بعض هؤلاء المزوّرين ندم على فعلته، وأقر بالإثم الذي اقترفه(2).
وقد يتفق بعض هذه الروايات مع رأي الشيعة في الإمام بأنه الطاهر النقّي من الزلات، وأن الله اختار الأئمة من بين العباد، وخصهم بخصائص دون غيرهم، وأن للإمام من القدرة في الصغر ما له في الكبر إلا أن الباحث او المؤرخ(3) مضطر إلى التماس الحقائق التاريخية، لأنها أدعى إلى التعويل عليها من روايات تدور حول الكرامات والمعجزات.
نعرف من طفولة الصادق (عليه السلام) أموراً توحي بأن الأقدار آثرته برعايتها، وخصته بها دون غيره من الصبيان، وأن الدنيا لم تتهجم له في حداثته.
وأول هذه الأمور أن الصادق (عليه السلام) الذي ولد ضعيف البنية هزيلاً وعانى من أمراض الرضاعة والطفولة عناءً شديداً، قد استقوى على هذه المتاعب التي كانت تحصد الأطفال، واشتد عوده وهو يستقبل الثالثة من عمره.
والأمر الثاني هو أن جعفراً الصادق (عليه السلام) ولد لأسرة عريقة تتمتع باحترام الجميع، وأفرادها من أواسط الناس ماديّاً.
والأمر الثالث هو أن أم فروة والدة الصادق كانت كغيرها من نساء بيت الخليفة الأول أبي بكر امرأة متعلمة مثقفة، وأن محمداً الباقر (عليه السلام) والد الصادق كان أعلم أهل عصره بلا منازع.
أما الأمر الرابع فهو أن والد الصادق وجده عليهما السلام اهتما برعايته وتعليمه وتربيته من السنة الثانية. ويعترف علماء التربية في هذا العصر بأن أفضل سني تعليم الطفل هي ما بين الثانية والخامسة، لأن قوة الذاكرة لدى الطفل تكون في هذه الفترة أقوى منها في غيرها.
ومن آراء علماء التربية أن الطفل بين الثانية والسادسة يستطيع أن يتعلم لغتين أخريين إلى جانب لغة الأم.
ومن مؤديات القاعدة العامة أن يكون نصيب الطفل من التعليم في الأسرة المتعلمة والمثقفة أكثر، وحظه في ارتقاء المدارج العلمية أوفى من حظ غيره.
كان الإمام الباقر (عليه السلام) والد الصادق (عليه السلام) باعتراف الجميع، أعظم العلماء في عصره، وكان جدُّه زين العابدين(عليه السلام) أيضاً من أكابر العلماء والزّهاد، وقد ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) بعض مؤلفاته التي لدينا جزء منها.
وقد حظى جعفر الصادق باهتمام والده وجدّه ووالدته (أم فروة)، فعكفوا جميعاً على تعليمه دون غيره من إخوته، ولعل السبب في ذلك أن جعفراً (عليه السلام) كان قوّي الذاكرة وكان مقبلاً على العلم.
وفي رأي الشيعة أن قوة الذاكرة لدى الصادق (عليه السلام) وعمق ادراكه كانا من الصفات والخصائص التي منحها الله إياه لإمامته، ولو بحثنا في الشرق او في الغرب، لوقعنا على أطفال آخرين يتمتعون بدورهم بقوة الذاكرة والإدراك، ولكن دون أن يكونوا أئمة، ومن هذا القبيل مثلاً ابن سينا، وأبو العلاء المعري من الشرق، وثاسيت(4) في الغرب، فقد كانوا يتمتعون بذاكرة قوية تسجل كل ما سمعوه او قرأوه مرة واحدة، فلا ينسونه.
إن المقابلة التي زفت بشرى ميلاد جعفر الصادق (عليه السلام) إلى جدّه زين العابدين (عليه السلام) كانت سعيدة الحظ، لأن ميلاد الولد في أسرة من الأشراف كان يعتبر حدثاً هاماً.
وقد نظمت الأراجيز فرحاً بالمولود، منها هذه الأرجوز:
(أبشروا حبابا * قدّه طال نما * وجهه بدر السماء)
وقد حفظها جعفر الصادق (عليه السلام) وهو في الثانية من عمره. وكان جعفر يلعب مع بقية الصبيان لعبة الأسياف مستعيناً بسيف صغير، وهي لعبة متداولة عند العرب صغاراً كانوا أم كباراً.
وكانت دار الحسين بن علي (عليه السلام) جدّ جعفر الصادق (عليه السلام) التي ولد فيها الصادق (عليه السلام) تقع إلى جوار مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولكنها هدمت فيما بعد لتوسيع المسجد، واستخدم الذي دُفع فيها من بيت المال في شراء أرض في المسقى حيث بنيت دار أخرى بأيدي معماريين من الفرس شأنها شأن بيوت الأشراف في مكة والمدينة، وكان صحن الدار يتسع لجعفر الصادق (عليه السلام) وغيره من الصبيان حيث يلعبون ويمرحون.
دراساته الأولى
لدينا روايتان مختلفتان عن بدء دراسة جعفر الصادق (عليه السلام)، تقول الأولى إنه بدأ الدراسة برعاية والده وهو في الثالثة من عمره، في حين أن الرواية الثانية تشير إلى أن بداية الدراسة كانت من السنة الخامسة.
يقول محمد بن أبي رندفة، وهو من مؤرخي المغرب الإسلامي (ولد 451هـ وتوفي 520هـ) في كتابه (الاختصار): أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان يحضر درس والده محمد الباقر وهو في سن العاشرة. وهذه رواية مقبولة معقولة.
ولا ريب في أن محمداً الباقر (عليه السلام) كان يعلّم ابنه جعفراً أشياء كثيرة قبل هذا الموعد ولكن لعله وهو في العاشرة من عمره انضم إلى حلقات درس الوالد، الذي كان مجمعاً ومدرسة علمية للطلبة والباحثين.

 

  المصدر:سایت السبطین

____________________________________________________
1 - يوحنا مندل (MENDEL) ولد عام 1822 وتوفي عام 1884، وهو راهب وعالم نباتي نمسوي، قام بإجراء تجارب على الصفات المتوارثة في النيات والحيوان، واستنبط ناموس الوراثة المعروف باسمه (المترجم).
2 - كان هذا الرأي المؤلف في أبي هريرة. وأما آراء المسلمين في الموضوع فيرجع إليها في كتاب (شيخ المضيرة أبو هريرة) للشيخ محمود أبو رية، طبع دار المعارف، القاهرة/ 1325هـ.
3 - وخاصة إذا كان ممن لا يدينون بدين سماوي أو إيمان يتيح لهم الاعتراف بخوارق العادات هذه.
4 - ثاسيت مؤرخ رومي ولد سنة 55 ميلادية وتوفي 118م، ولف ما لايقل عن مائتي كتاب، بقي منها ثلاثة:
أ ـ جرمانيا: وهو تاريخ الشعوب الألمانية في مجلد واحد.
ب ـ كتاب التاريخ في أربعة مجلدات.
ج ـ تقويم الرزنامج في اثني عشر مجلداً.

logo test

اتصل بنا