المحور الثقافي والفكري

flower 12

    

ألف ـ مواجهة التيارات الإلحادية :
ومن الخطوات التي خطاها الإمام (عليه السلام) هي مواجهة الافكار الالحادية سابقة الذكر حيث ناقشها بعدة أساليب حتى استفرغ محتواها ووقف امام تحقيقها لأهدافها .
نختار نماذج من تحرّك الإمام ونشاطه في هذا المجال .
1 ـ جرت بين الإمام وأحد أقطاب حركة الكفر والالحاد ( أبو شاكر الديصاني ) عدة مناظرات أفحمه الإمام فيها وأبطل مزاعمه الواهية وكان من بينها المناظرة التي وجّه فيها أبو شاكر السؤال التالي للإمام (عليه السلام) : قائلاً: ما الدليل على أنّ لك صانعاً ؟
فأجابه الإمام (عليه السلام) : « وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إما أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري. فان كنت صنعتها فلا أخلو من أحد معنيين : إما أن اكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئاً ، فقد ثبت المعنى الثالث: أنّ لي صانعاً وهو ربّ العالمين» [1]
.
2 ـ دخل الديصاني على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له : يا جعفر بن محمد دُلّني على معبودي . . . وكان الى جانب الإمام غلام بيده بيضة فأخذها منه ، وقال له : « يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ، ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها ، لا يدرى للذكر خُلقت أم للانثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبّراً ؟ » .
وأطرق الديصاني مليّاً الى الارض ، واعلن التوبة والبراءة ممّا قاله [2]

3 ـ ووفد زنديق آخر على الإمام (عليه السلام) وهو من الزنادقة البارزين في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) وقد قدّم للإمام عدة مسائل حسّاسة فأجاب عنها الإمام(عليه السلام) نذكر بعضاً منها :
1 ـ سأله : كيف يعبد اللهَ الخلقُ ولم يروه ؟
فأجابه (عليه السلام) : « رأته القلوب بنور الايمان ، وأثبتته العقول بيقظتها اثبات العيان وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته» [3]

ويتضمّن جواب الإمام (عليه السلام) بعض الادلة الوجدانية على وجود الخالق من خلقه للمجرّات في الفضاء والتي لا تعتمد على شيء سوى قدرة الله تعالى.
ثم إنّ العقول الواعية والقلوب المطمئنّة بالإيمان هي التي ترى الله بما تبصره من بدائع مخلوقاته ، إذ الأثر يدلّ على المؤثّر والمعلول يدلّ على علّته .
2 ـ وسأله : من أين أثبت أنبياءَ ورسلاً ؟
فأجاب (عليه السلام) : « إنا لمّا اثبتنا أنّ لنا خالقاً ، صانعاً ، متعالياً عنّا، وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيماً ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه، ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أنّ له سفراء في خلقه، وعباد يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم. فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين هم أنبياء الله وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبين بالحكمة مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فلا تخلو الارض من حجة يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقال الرسول ووجود عدالته.
وأضاف الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً : « نحن نزعم أنّ الأرض لا تخلو من حجة ولا تكون الحجة إلاّ من عقب الانبياء وما بعث الله نبياً قطّ من غير نسل الانبياء ، وذلك أن الله شرع لبني آدم طريقاً منيراً، وأخرج من آدم نسلاً طاهراً طيّباً، أخرج منه الانبياء والرسل، هم صفوة الله وخلص الجوهر، طهروا في الاصلاب، وحفظوا في الارحام، لم يصبهم سفاح الجاهلية ولا شاب أنسابهم، لأنّ الله عزّوجلّ جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه، فمن كان خازن علم الله ، وأمين غيبه، ومستودع سرّه، وحجّته على خلقه، وترجمانه ولسانه لا يكون إلاّ بهذه الصفة، فالحجّة لا تكون إلاّ من نسلهم، يقوم مقام النبي (صلى الله عليه وآله) في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول، إن جحده الناس سكت، وكان بقاء ما عليه الناس قليلاً ممّا في أيديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس، وانّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه ظهر العدل، وذهب الاختلاف والتشاجر، واستوى الأمر، وأبان الدين، وغلب على الشك اليقين، ولا يكاد أن يقرّ الناس به، ولا يطيعوا له، أو يحفظوا له بعد فقد الرسول، وما مضى رسول ولا نبيّ قط لم تختلف اُمّته من بعده» .
3 ـ وسأله : ما يصنع بالحجة إذا كان بهذهِ الصفة؟
فأجابه (عليه السلام) : « يقتدى به ، ويخرج عنه الشيء بعد الشيء، مكانه منفعة الخلق، وصلاحهم فإن أحدثوا في دين الله شيئاً أعلمهم، وإن زادوا فيه أخبرهم، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم» [4]

وبهذا المستوى من الحوار وعمقه يستمرّ الإمام(عليه السلام) في أجوبته العملاقة حتى تصل الأسئلة والأجوبة الى خمسة وتسعين [5]
، ونظراً لسعتها اقتصرنا على الثلاث الاُول منها .
ب ـ مواجهة تيار الغلوّ
لقد كان موقف الإمام الصادق(عليه السلام) من تيّار الغلوّ وحركة الغلاة حازماً وصارماً، فقال لسدير: «يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، برئ الله منهم ورسوله ما هؤلاء على ديني ودين آبائي والله لا يجمعني وايّاهم يوم إلا وهو عليهم ساخط» [6]

وقال ميسرة : ذكرت أبا الخطّاب عند أبي عبدالله (عليه السلام) وكان متكأً فرفع إصبعه الى السماء ثم قال: «على أبي الخطّاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فأشهد بالله أنه كافر فاسق مشرك، وأنه يحشر مع فرعون في أشدّ العذاب غدواً وعشيّاً، ثم قال : والله والله إنّي لأنفس على أجساد أصيبت معه النار » [7]

وقال عيسى بن أبي منصور : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول ـ وقد ذكر أبا الخطّاب ـ : «اللّهم العن أبا الخطّاب فإنه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي اللّهم أذقه حر الحديد» [8]

وكان موقفه (عليه السلام) صلباً أمام هذه الطائفة الخطيرة على الاسلام ، وما كان ليستريح طرفة عين حتى أحبط مؤامرتها وما ضمّته من الحقد اليهودي ودسائسه التأريخية على الاسلام، ولو كان قد تراخى وفتر عنها لحظة لكانت تقصم ظهر التشيع .
ونلمس في الروايتين التاليتين حرقة الامام وألمه الشديد ومخافته من تأثير هذه الدعوة الضالّة على الاُمّة وشعارها المزيّف بحبّها لأهل البيت(عليهم السلام)، فعن عنبسة بن مصعب قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام): «أي شيء سمعت من أبي الخطاب ؟» قلت: سمعته يقول : انك وضعت يدك على صدره وقلت له: عه ولا تنس . وأنت تعلم الغيب. وأنك قلت هو عيبة علمنا وموضع سرّنا أمين على أحيائنا وأمواتنا.
فقال الإمام الصادق : «لا والله ما مسّ شيء من جسدي جسده، وأما قوله أني قلت : إني اعلم الغيب فوالله الذي لا إله إلا هو ما أعلم الغيب [9]
ولا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحبّائي إن كنت قلت له ! وأمّا قوله إني قلت: هو عيبة علمنا وموضع سرّنا وأمين على أحيائنا وأمواتنا فلا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له من هذا شيئاً من هذا قط» [10]

وقال الإمام (عليه السلام) لمرازم : «قل للغالية توبوا الى الله فإنكم فسّاق كفّار مشركون».
وقال (عليه السلام) له: «اذا قدمت الكوفة فإت بشار الشعيري وقل له: يقول لك جعفر بن محمد : ياكافر يا فاسق أنا بري منك . قال : مرازم فلمّا دخلت الكوفة قلت له: يقول لك جعفر بن محمد : يا كافر يا فاسق يا مشرك أنا بري منك. قال بشار: وقد ذكرني سيدي؟! قلت: نعم ذكرك بهذا. قال: جزاك الله خيراً» [11]

لاحظ الخبث وطول الأناة وعمق التخطيط حيث يذهب هذا الخبيث ليلتقي بالامام (عليه السلام) بعد كل الذي سمعه. ولما دخل بشار الشعيري على الإمام (عليه السلام) قال له: «اُخرج عني لعنك الله والله لا يظلّني وإيّاك سقف أبداً». فلمّا خرج، قال(عليه السلام) : «ويله ما صغر الله أحداً تصغير هذا الفاجر ، إنّه شيطان خرج ليغوي أصحابي وشيعتي فاحذروه ، وليبلّغ الشاهدُ الغائب إني عبدالله وابن أمته ضمّتني الأصلاب والأرحام وإنّي لميّت ومبعوث ثم مسؤول» [12]

 

المصدر:سایت السبطین
_______________________
[1]
بحار الأنوار: 3/50 عن التوحيد للصدوق.
[2]
اُصول الكافي : 1 / 80 ، والاحتجاج : 2 / 71 ـ 72 .
[3]
الاحتجاج : 2/77 .
[4]
الاحتجاج للطبرسي : 2/77 ـ 78.
[5]
الاحتجاج : 2/77 ـ 100 عن يونس بن ظبيان وعبدالدين سنان، ولم يسمّيا الزنديق ولم يرويا توبته!
[6]
اُصول الكافي: 1 / 269 .
[7]
اختيار معرفة الرجال للكشي: 269 ح 524 .
[8]
اختيار معرفة الرجل: 290 ح 509 وعنه في عوالم العلوم والمعارف: 20/2 ح 1151 .
[9]
والإمام(عليه السلام) هنا في مقام نفي العلم بالغيب الاستقلالي الذي يدّعيه الغلاة، لا العلم بالغيب الممنوح للنبي(صلى الله عليه وآله) ولهم منه سبحانه .
[10]
اختيار معرفة الرجال للكشي: 292 ح 515 وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 2 / 375.
[11]
اختيار معرفة الرجال للكشي: 398 ح 744 وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 2/375 .
[12]
المصدر السابق : 400 ح 746 وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 1/235 .

logo test

اتصل بنا